بقلم: ناصر الريـّس*
بدأت علاقة هيئة الأمم المتحدة السياسية والقانونية مع القضية الفلسطينية فور وضع حكومة الانتداب البريطاني موضوع انتدابها لفلسطين على جدول أعمال الجمعية العامة، للبت في مصيره واستمراره، ولحسم الجمعية العامة للمسألة الفلسطينية وتسوية وضعها القانوني فور زوال الانتداب البريطاني نهائيا عنها.
وبهذا الصدد، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال دورتها الثانية المنعقدة بتاريخ 29 نوفمبر1947، قرارها الشهير رقم "181" القاضي بتقسيم فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني إلى دولتين إحداهما عربية والأخرى يهودية. منحت الأولى بموجب هذا القرار حوالي 42.88% من إجمالي مساحة فلسطين، في حين منحت الثانية ما نسبته 56.47% من مساحة فلسطين، وخصص ما تبقى والبالغ نسبته 0.65% من مجمل الإقليم الفلسطيني لمدينة القدس التي تم وضعها استنادا لمضمون القرار تحت نظام الوصاية الدولية.
ولقي قرار الجمعية العامة بالتقسيم رفض الفلسطينيين باعتباره قراراً مجحفا بحق قضيتهم الوطنية وتطلعاتهم الوطنية بالاستقلال وإقامة دولتهم، بينما نفذت الحركة الصهيونية التي كانت تقود الجماعات اليهودية في فلسطين الشق الخاص بالدولة اليهودية، وذلك بإعلانها فور إنهاء الحكومة البريطانية الرسمي لانتدابها على فلسطين، عن قيام دولة إسرائيل الواقعي بتاريخ 15 أيار 1948.
ولم يلتزم الإسرائيليون بالمساحة المحددة لدولتهم بمقتضى قرار التقسيم، إذ سيطرت هذه الدولة على ما يساوي 77.4%من إجمالي مساحة أراضي فلسطين الانتدابية، كما سعت إسرائيل إلى تطبيق مبدأ الأرض النظيفة، أي الأرض الخالية من السكان، من خلال تنفيذها لسياسة التطهير العرقي بمواجهة الفلسطينيين عبر حملات الطرد والتهجير التي قامت بتنفيذها لإرغامهم على الهجرة القسرية عن ديارهم وممتلكاتهم الواقعة في المناطق التي سيطرت عليها.
ورغم انتهاك ومخالفة إسرائيل لقرار الجمعية العامة بالتقسيم، وقيامها بالسيطرة على مساحات شاسعة من الأرض المخصصة للدولة العربية، فضلا عن تنفيذها لأعمال التهجير القسري للسكان وغيرها من الجرائم والانتهاكات، أوصى مجلس الأمن الدولي بمقتضى قراره رقم 69 الصادر بتاريخ 4/مارس /1949 بقبول عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة، كما قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة بمقتضى القرار رقم 273 الصادر عن الدورة الثالثة للجمعية العامة بتاريخ 11 أيار 1949م، قبول دولة إسرائيل عضو في الأمم المتحدة.
ولكي تؤكد الجمعية العامة على إلزامية قرار التقسيم ووجوب احترام والتزام إسرائيل بحدودها المقرة في قرار التقسيم، وأيضا تنفذ التزامها الخاص بحق اللاجئين في العودة، أدرجت بصريح النص في متن قرارها المتعلق بالموافقة على قبول دولة إسرائيل في عضوية الأمم المتحدة، تصريح دولة إسرائيل الصريح بالموافقة دون تحفظ على القرار رقم 181 والقرار رقم 194.
ولم تلتزم إسرائيل في أعقاب ذلك بأي من القرارات السالفة، إذ تجاهلتها بالمطلق، كما تجاهل المجتمع الدولي هذا الالتزام، وسكت عن إثارته أو الحديث عنه، ما يعني ضمنيا قبول المجتمع الدولي بما فيه الأمم المتحدة بما قامت به إسرائيل من ضم واكتساب للأراضي الفلسطينية التي استولت عليها، كما بدأ يتناسى موضوع حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم، وليس هذا فحسب؛ بل تحولت الأمم المتحدة من صاحب قرار ومرجعية لحل وتسوية القضية الفلسطينية إلى طرف هامشي وغير مؤثر في اللجنة الرباعية الدولية، المكونة من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، والتي أنشئت باقتراح من قبل رئيس الوزراء الإسباني خوسيه ماريا أثنار في مدريد عام 2002، لوقف التدهور في العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية ولإعادة الطرفين إلى المفاوضات وفق "خارطة الطريق" التي استمدتها اللجنة من رؤية الرئيس الأمريكي السابق بوش، المعلن عنها في خطابه بتاريخ 24 يونيو 2002، والتي تقوم على أساس البدء بمحادثات بين الطرفين للتوصل لتسوية سلمية نهائية -على ثلاث مراحل- لإقامة دولة فلسطينية بحلول عام 2005.
وبالطبع لم تتحقق هذه الرؤيا وهذا التصور لأسباب تتعلق دون شك بالطرف الإسرائيلي وعدم جديته ورغبته في التوصل لحل سلمي، بل بات واضحا للفلسطينيين بأن مسار التفاوض في ظل إصرار الاحتلال على سياسته التوسعية الاستيطانية وبناء جدار الضم والإلحاق وعزل القدس عن محيطها العربي وممارسته لسياسة التطهير العرقي لسكانها العرب، وهو أمر غير مقبول بل ويمثل ضياعا للحقوق الفلسطينية ما يقتضي ضرورة البحث عن أدوات ووسائل تعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية وتشكل ورقة ضغط في يد الفلسطينيين لمساعدتهم على مواجهة السياسة والموقف الإسرائيلي.
ومن هذا المنطلق وجد الفلسطينيون في التوجه إلى الأمم المتحدة بطلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية مخرجا وملاذا قد يسعفهم في الخروج من مأزق المفاوضات، فضلا عما قد يحققه من إعادة لوضع ومكانة واعتبار القضية الفلسطينية على الصعيد الدولي.
ورغم سلامة هذا التوجه، نشير إلى أن العودة بالقضية الفلسطينية إلى هيئة الأمم المتحدة ما كان لها، من وجهة نظري، أن تكون بهذه الطريقة، أي بحصر الموضوع الفلسطيني فقط بطلب العضوية كدولة، لاعتبارات كثيرة أهمها: عدم امتلاك الفلسطينيين لإمكانية تحقيق هذا الطلب في الظرف الراهن، ولكون الاعتراف بالدولة يقتضي بلا شك الحصول على موافقة مجلس الأمن الدولي، استنادا للمادة الرابعة من ميثاق الأمم المتحدة التي علقت إصدار الجمعية العامة لقرارها بالموافقة على عضوية الدول الراغبة بالانضمام إلى هيئة الأمم على توصية من مجلس الأمن بقبول الجمعية العامة لهذا العضو، وهو بلا شك ما يعتبر أمرا معقدا بل ومستحيلا بالنسبة للفلسطينيين جراء الموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل، والذي لن يدخر جهدا في عرقلة ومنع المجلس من التصويت لصالح الطلب الفلسطيني، سواء بالتأثير على مواقف الدول الأعضاء في المجلس، أو عبر استخدام حق النقض "الفيتو" لمنع تمرير القرار، ما يعني إجهاض المشروع الفلسطيني لكونه مرهون بموقف وقرار الولايات المتحدة.
ولهذا كان من المفترض أن تقوم القيادة الفلسطينية، طالما ترسخت لديها قناعة بالتوجه نحو إعادة تدويل القضية الفلسطينية، بوضع إستراتيجية قانونية شاملة في التعاطي مع الأمم المتحدة، تأخذ بعين الاعتبار الأمور والمسائل التالية:
- عدم حصر التوجه لهيئة الأمم المتحدة بموضوع الاعتراف بالدولة، وإنما نقل جميع ملفات القضية الفلسطينية الأساسية، وتحديدا القدس والاستيطان والأسرى والمياه واللاجئين، إلى أروقة الأمم المتحدة لاستصدار قرارات جديدة وداعمة لهذه القضايا.
- طرح موضوع فتوى محكمة العدل الدولية بشأن الجدار الصادر عن المحكمة في تموز 2004م على الجمعية العامة للأمم المتحدة لتحويلها من رأي استشاري إلى قرارات وآليات عمل.
- دعوة الجمعية العامة لمطالبة الدول الأطراف باتفاقية جنيف الأربع بعقد مؤتمرها الخاص بسبل إلزام إسرائيل باحترام وتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة على صعيد الأرض الفلسطينية المحتلة.
- طرح موضوع عضوية إسرائيل على صعيد الأمم المتحدة، حيث أن عضوية إسرائيل لم تكن عضوية اعتيادية وإنما كانت مشروطة باحترام والتزام إسرائيل بقرار التقسيم وقرار العودة وهو ما لم يتحقق، ما يقتضي طرح هذا الموضوع على صعيد الأمم المتحدة لمناقشته والتقرير بشأنه.
- إعادة بحث الفلسطينيين لقرار التقسيم والتمسك به كمرجعية وأساس لحدود الدولتين، وبالتالي التمسك بهذا القرار كأساس لتحديد الإطار الجغرافي لحدود الدولة الفلسطينية.
- طرح رفض إسرائيل لفكرة الانسحاب من الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 باعتباره إخلالا بالسلم والأمن الدوليين، مما قد يفتح المجال أمام الجمعية العامة للتدخل استنادا لمضمون قرارها الشهير رقم 377 الصادر بتاريخ تشرين الثاني نوفمبر 1950 (الاتحاد من أجل السلم).1 الذي أجازت الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلاله لذاتها حق النظر في جميع المسائل والقضايا والخلافات الدولية التي تهدد وتمس السلم والأمن الدوليين، واتخاذ ما تراه مناسبا من تدابير وإجراءات بما فيها التدخل العسكري وذلك في جميع الحالات التي يثبت فيها تردد مجلس الأمن الدولي وتقصيره الفعلي في ممارسة مهامه وصلاحياته القانونية بخصوصها، جراء تعمد أي من أعضائه المالكين لحق النقض، استخدام هذا الحق بطريقة تعسفية وغير مبرره لعرقلة جهود المجلس وإمكانية التدخل وممارسة واجباته ومهامه المفترضة بشأنها
وفي الختام يبقى هناك تساؤلاً في غاية الأهمية، ألا وهو ماهية وطبيعة المكسب الذي قد يحققه الجانب الفلسطيني من اعتراف المجتمع الدولي به كدولة؟
لاشك بأن الاعتراف بنا كدولة قد يحقق للفلسطينيين مجموعة من المكاسب أهمها، حق هذه الدولة في مطالبة الأمم المتحدة وتحديدا مجلس الأمن الدولي بواجب وضرورة التدخل لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأراضيها، حيث أناط ميثاق الأمم المتحدة بمجلس الأمن الدولي صلاحيات حفظ الأمن والسلم الدوليين على صعيد المجتمع الدولي ككل، وتحقيقا لذلك نظم ميثاق الأمم المتحدة في أحكام كل من الفصل السادس والسابع منه، الوسائل والتدابير الجائز والممكن لمجلس الأمن الدولي اتخاذها واستخدامها حال شروعه في تنفيذ وتجسيد المهام المنوطة به على صعيد المجتمع الدولي.
وبالرجوع لآلية تدخل مجلس الأمن الدولي حال ارتكاب الدول لأعمال وتصرفات محظورة بموجب القانون الدولي وأحكام الميثاق، نقف على أن تدخل المجلس في مثل هذه الأوضاع يتم بطريقتين: الأولى وهي تلك التي تتم وتتحقق باستخدام وسائل وأساليب دبلوماسية بعيدة عن العنف والقوة في مواجهة الطرف الذي أخل بالتزاماته الدولية جراء اقترافه لعمل غير مشروع دوليا.2 وتتلخص إجراءات مجلس الأمن الدولي والتدابير الممكن له اتخاذها والاعتماد عليها في مثل هذه الأوضاع، بوقف التعامل الاقتصادي وقطع المواصلات بمختلف أنواعها ما بين أعضاء الأمم المتحدة والطرف المخل بالتزاماته الدولية، وفضلا عن ذلك يحق للمجلس في سبيل ضمان نجاعة إجراءاته الدبلوماسية استخدام القوات البحرية والجوية والبرية في فرض الحصار على الدول في هذه الأحوال.
وتتمثل الآلية أو الأداة الأخرى الممكن للمجلس استخدامها في مواجهة انتهاك الدول وإخلالها بمبادئ الميثاق والتزاماتها الدولية في استخدام المجلس للقوة المسلحة والتدابير العسكرية في مواجهة الأطراف التي ترتكب أفعالا تنتهك بموجبها أحكام الميثاق وقواعد القانون الدولي، كما يمكن للفلسطينيين الضغط في هذه الحالة على الجمعية العامة لاستخدام صلاحياتها بمقتضى القرار 377 إذا أخفق أو تقاعص مجلس الأمن عن استخدام صلاحياته.
أما بشأن علاقة وأثر الاعتراف بالدولة الفلسطينية على التوجه الفلسطيني المتعلق بملاحقة ومساءلة دولة الاحتلال وقادتها عن ممارساتهم وانتهاكهم لأحكام القانون الدولي، أو إذا ما كان لهذا الاعتراف أثر سلبي على تنفيذ المحتل الإسرائيلي لمقررات الشرعية الدولية المتعلقة بعودة اللاجئين، فهنا يمكننا القول بأن هذا الاعتراف لن يؤثر سلبيا على مساءلة إسرائيل وعلى تنفيذها لمقررات الشرعية الدولية، بل على العكس من ذلك سيؤدي حصول الفلسطينيين على مركز الدولة إلى فتح المجال أمامهم لاستخدام جميع الآليات الدولية المتاحة لفتح موضوع مسؤولية إسرائيل عن انتهاكها لحقوق الشعب الفلسطيني، وما قامت به من تدمير ونهب وتبديد لثرواتهم ومقدراتهم، وغيرها من الجرائم التي ارتكبتها ولم تزل ماضية بارتكابها كالاستيطان وضم وتهويد القدس وجدار الضم.
ويمكننا بهذا الصدد حصر وتحديد الجوانب الايجابية للاعتراف بالدولة وأثره على حقوق الفلسطينيين عموماً والمساءلة بوجه خاص بالنقاط التالية:
- سيتيح الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل الأمم المتحدة لدولة فلسطين، بحق ومشروعية الانضمام للاتفاقيات الدولية، خصوصا وأن اغلب هذه الاتفاقيات إن لم يكن جميعها تشترط لصحة الانضمام امتلاك الجهة الراغبة بالانضمام لمكانة ومركز الدولة، وبالتالي يحق لفلسطين في هذه الحالة استخدام آليات هذه الاتفاقيات في طرح الانتهاكات والتجاوزات الإسرائيلية ومن ثم الضغط على الدول الأطراف في هذه الاتفاقيات لتحمل مسؤولياتها القانونية التعاقدية بمواجهة الممارسات والتصرفات الإسرائيلية. ولعل من أهم الاتفاقيات التي يمكن استخدام آلياتها وأدواتها في هذا الشأن: ميثاق الأمم المتحدة، اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وتحديدا اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية السكان المدنيين وقت الحرب والاحتلال، الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التعذيب، الاتفاقية الدولية المتعلقة بمحكمة الجزاء الدولية.
- ان الاعتراف بالدولة الفلسطينية سيتيح لفلسطين إمكانية طرح موضوع المسؤولية الإسرائيلية على صعيد الأمم المتحدة وبالتالي قد يقود إلى تشكيل لجنة دولية لبحث موضوع الأضرار الفلسطينية الناشئة عن الاحتلال وممارساته، ومن ثم وضع المجتمع الدولي لآليات وقرارات ملزمة لإلزام إسرائيل بالتعويض عن هذه الأضرار.
- ستصبح دولة فلسطين فور الاعتراف بها الخلف الشرعي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي ستنتقل جميع الحقوق التي أقرتها الأمم المتحدة لشعب فلسطين بمقتضى قراراتها الصادرة إبان تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية للشعب الفلسطيني إلى دولة فلسطين، التي لها كامل الحق في مطالبة المجتمع الدولي بإعمال وتنفيذ هذه القرارات بما فيها القرارات المتعلقة بالسيادة الدائمة على الموارد والثروات والقرارات المتعلقة بحقوق الفلسطينيين غير القابلة للتصرف والعودة وتقرير المصير.
- إن أهم ما قد يقدمه الاعتراف بالدولة يتمثل في حق هذه الدولة في مساءلة وملاحقة الدول التي قد تدعم أو تساند دولة الاحتلال الإسرائيلي سواء في تنفيذ انتهاكاتها أو دعم وتشجيع هذه الدولة على الاستمرار في عدوانها واحتلالها للأرض الفلسطينية.
* ناصر الريس: باحث ومستشار قانوني بمؤسسة "الحق"، مؤسسة فلسطينية تعني بحقوق الإنسان، وهي فرع للجنة الحقوقيين الدولية بجنيف، وتتمتع بصفة استشارية لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي في الأمم المتحدة.
1. أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا القرار بمناسبة النزاع الدائر في كوريا. للاطلاع على أهم ما تضمنه نص قرار الجمعية العامة (الاتحاد من أجل السلم) انظر النسخة الالكترونية لحق العودة على صفحة بديل.
2. نظمت هذه الوسائل أحكام كل من المادة 41 والمادة 42 من الميثاق (انظر الصفحة الالكترونية لبديل).