تدين مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية، إرسال قوات الاحتلال الإسرائيلي، جثامين 88 فلسطينيًّا في حاوية عبر إحدى شركات النقل المحلية، دون تنسيق مع وزارة الصحة الفلسطينية أو اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ودون إرفاق أي بيانات أو معلومات تشير إلى هوية أصحاب الجثامين، فضلاً عن عدم إرفاق أي أمانات من متعلقات أصحاب هذه الجثث.
ووفق المعلومات التي توفرت لباحثينا، فقد وصلت عند حوالي 13:00 من مساء الأربعاء، 25 سبتمبر/أيلول 2024، جثامين 88 فلسطينياً في شاحنة "كونتينر" إلى مستشفى ناصر في مدينة خان يونس، أرسلتها قوات الاحتلال عبر معبر كرم أبو سالم، وسلمتها لشركة نقل محلية دون تنسيق مسبق مع وزارة الصحة أو اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وأعلنت وزارة الصحة أنها امتنعت عن استلام الجثامين، لعدم وجود أي بيانات أو معلومات تدل على هوية أصحابها وأماكن انتشال الجثامين ووقت الوفاة وفق الأصول، للتمكن من تبليغ ذوي المتوفين من الشهداء لاستلام الجثامين ودفن الشهداء بكرامة. وجاء إرسال الجثامين في خطوة أحادية ودون تنسيق مع أحد، بما في ذلك اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وفي ظل استحالة أن تعيد الشاحنة الجثامين إلى قوات الاحتلال، حيث إنه بمجرد تحركها باتجاه قوات الاحتلال في المناطق الشرقية ستتعرض للقصف، توجه سائق الشاحنة إلى مقر اللجنة الدولية للصليب في منطقة مواصي خان يونس، ولكن اللجنة رفضت استلام الجثامين ونشرت بياناً أكدت فيه أنها لم تشارك في هذه العملية في أي مرحلة، وأنها تقف على أهبة الاستعداد لتسهيل نقل الجثامين بصفتها وسيط إنساني محايد، وذلك في حال توصُّل أطراف النزاع إلى اتفاق مسبق، وبالتوافق معها.
وقالت وزارة الصحة الفلسطينية يوم الخميس، 26 سبتمبر/أيلول 2024، أنها حاولت إشراك اللجنة الدولية للصليب الأحمر لإتمام عملية التنسيق مع الاحتلال إلا أنها اعتذرت لعدم مطابقة العملية للبروتوكول المعمول به في مثل هذه القضايا.
وذكرت الوزارة أنها قررت تشكيل لجنة من الأطراف تضم دائرة الطب الشرعي وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وأنها ستحفر قبراً جماعياً تدفن فيه الجثامين دون مشاركة الأهالي لأن الجثامين مجهولة الهوية، ولا تُعرف المنطقة التي انتشلوا منها أو قتلوا فيها، أو من أي المعتقلات، وما إلى ذلك من بيانات يفرض القانون الدولي العرفي على أطراف النزاع الوفاء بها، وهو ما تؤكده صراحة اتفاقيات جنيف الأربع، ولاسيما الرابعة المخصصة لحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12 آب/أغسطس 1949، وهو أمر يؤكده أيضاً البروتوكولان الملحقان لعام 1977.
وأفادت فرق البحث الميداني في المؤسسات الثلاث أن اللجنة المشكلة من وزارة الصحة، وفي ظل تعذر إعادة الجثث إلى قوات الاحتلال أو استعداد اللجنة الدولية لبذل جهودها للحصول على بياناتهم، أنها ستحفر قبراً جماعياً وتواري الجثامين بعد ظهر اليوم الخميس، 26 سبتمبر/أيلول 2024، حيث دفنوا جماعياً في المقبرة التركية في خان يونس.
والجدير بالذكر أن عشرات المعتقلين من قطاع غزة قتلوا جراء التعذيب داخل السجون الإسرائيلية والمواقع العسكرية، التي استخدمت كأماكن احتجاز خضع فيها المعتقلون لأهوال التعذيب والتجويع والإهمال الطبي، ما تسبب في وفاة العشرات منهم، وبقيت جثامينهم محتجزة لدى الاحتلال.
ويجدر التذكير أيضاً أن قوات الاحتلال هاجمت المقابر وساحات المستشفيات التي استعملت كمقابر جماعية لدفن الشهداء في ساحاتها بعد محاصرتها ومنع إخراج جثامين الشهداء منها، كما جرى في معظم المستشفيات التي اقتحمتها قوات الاحتلال ولاسيما مستشفى الشفاء ومستشفى ناصر، كما هاجمت قوات الاحتلال المقابر ونبشت القبور في معظم المناطق التي اجتاحتها من رفح إلى بيت حانون، ونقلت الجثث إلى أماكن مجهولة.
ومع هجوم قوات الاحتلال البري على قطاع غزة شاعت ظاهرة الاختفاء القسري، حيث لا يزال مصير آلاف الفلسطينيين والفلسطينيات مجهولاً لذويهم، وهي مشكلة تتفاقم مع استمرار رفض قوات الاحتلال الكشف عن مصيرهم، وهي بسلوكها في إرسال الجثامين إنما تعظم من مشكلة الاختفاء القسري وتضاعف من معاناة ذوي المختفين قسرياً.
وخلال حرب الإبادة الجماعية الجارية، أجبرت قوات الاحتلال شركات النقل على تسليم جثامين أكثر من 608 فلسطينياً، دون التنسيق مع أي جهة دولية أو محلية، حيث استلمت وزارة الصحة 520 جثمان في ثلاث مرات خلال شهر فبراير ومايو وأغسطس 2024، وهذه هي المرة الرابعة التي تمارس فيها قوات الاحتلال السلوك نفسه، حيث ترسل جثامين دون أي بيانات أو تفاصيل عن هويات أصحابها.
والجدير بالذكر أن المرة قبل الأخيرة، التي استقبل فيها مجمع ناصر الطبي 80 جثماناً لشهداء فلسطينيين، كانت عند حوالي الساعة 10:30 صباح يوم الاثنين، 5 أغسطس/آب 2024، وتم دفن الجثامين في قبر جماعي تم تجهيزه في المقبرة التركية جنوب مستشفى ناصر، بمشاركة الدفاع المدني. وأفادت المصادر الطبية في حينه، أن الحاوية كان بداخلها 35 جثة كاملة ومجهولة الهوية، وعدد 45 أجزاء من الجثث المتحللة، وجميعها وضعت في أكياس عليها أرقام ولا تشمل أي معلومات عن أصحاب الجثامين، وأن بعض الاكياس كانت تضم أكثر من جثمان.
هذا ويتوقع بناء على معلومات أولية حصل عليها باحثوا المؤسسات من الطب الشرعي بأن تتشابه تفاصيل الجثامين في هذه المرة مع المرات السابقة كتحلل الجثث والعثور على رأسين في كيس واحد.
يفرض القانون الدولي الإنساني على أطراف النزاع التعامل مع الأفراد الذين خسروا أرواحهم أثناء النزاع المسلح، بما يحفظ كرامتهم الإنسانية وإدارة جثامينهم بالشكل الصحيح عبر تجهيز قوائم بأسمائهم والتواريخ والأماكن التي حدثت فيها الوفاة وأسباب الوفاة. ويفرض القانون الدولي، ولاسيما المادتين (130، 138) من اتفاقية جنيف الرابعة، على دولة الاحتلال التحقيق في كل حالة وفاة وأن تحررا محضراً يحدد أسبابها والمسئولين عن الحادثة وأن ترسل الجثث أو الرفاة إلى ذوي المتوفى لدفنهم بكرامة ووفق المعتقدات الدينية أو ثقافة ذوي المتوفى. هذا بالإضافة إلى إرفاق ما كان يحمله الشخص المتوفى قبيل الوفاة سواء كانت نقود أو أوراق ثبوتية أو أي متعلقات شخصية أخرى. كما يحدد البروتوكول الإضافي الأول في المواد (32، 33، 34) واجبات دولة الاحتلال والتي من بينها ضمان حق أي أسرة في معرفة مصير أبنائها، والبحث عن المفقودين والقتلى وانتشالهم واجلائهم، مما يساهم في ضمان عدم بقائهم في عداد المفقودين.
تستنكر مؤسساتنا، المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ومركز الميزان لحقوق الإنسان ومؤسسة الحق هذا السلوك الوحشي الذي ينتهك القانون الدولي، وتعتبره انتقاماً من الفلسطينيين والفلسطينيات الأموات والأحياء، خاصة مع اتساع ظاهرة الاختفاء القسري وعدم قيام سلطات الاحتلال بواجبها في كشف مصير المختفيين، مما زاد من العذابات التي يعانيها ذوي المختفين قسرياً من أبناء وبنات وزوجات وأزواج وآباء وأمهات.
وعليه فإن مؤسساتنا تجدد مطالباتها المتكررة بتدخل المجتمع الدولي العاجل لوقف جريمة الإبادة الجماعية وفرض وقف إطلاق نار فوري ورفع للحصار المفروض على قطاع غزة والمسارعة إلى إغاثة السكان، كما وتطالب اللجنة الدولية للصليب الأحمر والمجتمع الدولي، ولاسيما الأطراف السامية الموقعة على اتفاقية جنيف الرابعة بالتحرك العاجل وإلزام إسرائيل القوة القائمة بالاحتلال باحترام التزاماتها بموجب القانون الدولي وتقديم المعلومات الضرورية عن هوية 608 انسان فلسطيني سلمتهم جثثاً مجهولة الهوية، والكشف عن مصير بقية الفلسطينيين المختفيين قسراً.