تابعت مؤسسة الحق، بقلق بالغ، ظروف وملابسات احتجاز د. عبد الستار قاسم، أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح، على خلفية تصريحاته في المقابلة التلفزيونية التي أجراها بتاريخ 27/1/2016، وما تلاها من وقائع وتداعيات، والإجراءات التي اتخذت من قبل النيابة العامة والقضاء في مسار الدعوى الجزائية على خلفية الشكوى المثارة ضده، ومدى انسجام تلك الإجراءات مع القانون الأساسي المعدل والتشريعات الفلسطينية والمعايير الدولية لحقوق الإنسان المتعلقة بضمانات المحاكمة العادلة؛ في مرحلة ما قبل المحاكمة، وفضاء حرية الرأي والتعبير.
تأتي قضية د. قاسم، في ظل انضمام دولة فلسطين للعديد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، بدون تحفظات؛ ومن بينها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وما يمليه من التزامات دولية تقتضي إنفاذ الحقوق الواردة في العهد المذكور على المستوى التشريعي والسياساتي وفي الممارسة العملية، وبيانها في التقارير الرسمية التي تعدها دولة فلسطين على الاتفاقيات الدولية؛ بما يشمل توفير معلومات واضحة في التقارير الرسمية بشأن سبل الانتصاف المحلية ومدى فعاليتها في إنفاذ الحقوق والحريات العامة.
وحيث أن إعداد "التقارير الموازية" على الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها دولة فلسطين، بدون تحفظات، يقع في صلب اهتمام مؤسسة الحق، فإنه من الأهمية بمكان التوضيح بأن الفريق العامل في الأمم المتحدة المعني بالاحتجاز التعسفي، الذي يضم مجموعة من الخبراء المفوضين بصلاحية التحقيق في حالات الاحتجاز التعسفي؛ قد أكد في الورقة الصادرة عنه "ورقة حقائق وأرقام 26، القسم 5 (أ)-(ب)" بأن الحرمان من الحرية يكون تعسفياً، في جملة من الحالات؛ من بينها أن يكون القبض أو الاحتجاز الذي يسمح به القانون المحلي، تعسفياً بمقتضى المعايير الدولية، بما يشمل أن يكون القانون المحلي غامض الصياغة أو فضفاضاً، أو غير متماشياً مع حقوق إنسانية أخرى من قبيل حرية الرأي والتعبير أو حرية المعتقد أو الحق في التجمع، أو أن يكون الاحتجاز التعسفي نتيجة لانتهاك حق المحتجز في محاكمة عادلة.
وبناءً على التقارير والإفادات والمتابعات الميدانية التي جرى توثيقها وعملية تقصي الحقائق التي أجرتها مؤسسة الحق في إطار دورها الرقابي على أداء منظومة العدالة، في مسار الإجراءات الجزائية التي اتخذت في قضية الدكتور قاسم، وما نُسب إليه من تهم جزائية تتعلق "بإطالة اللسان على مقامات عليا؛ وإذاعة أنباء كاذبة تنال من هيبة الدولة؛ والنيل من رئيس الدولة؛ والذم الواقع على السلطة العامة؛ وإثارة النعرات والحض على النزاع بين الطوائف"، وبعيداً عن التدخل أو التأثير في قضية بين يدي القضاء، لاعتبارات دستورية تتعلق باستقلال القضاء وعدم التدخل في شؤون العدالة، في مقابل واقع حال مؤلم تعاني منه منظومة العدالة في فلسطين، فإن مؤسسة الحق تبدي ملاحظاتها في الجانب المتعلق بمدى احترام ضمانات المحاكمة العادلة في مسار الإجراءات الجزائية في قضية الدكتور قاسم على النحو التالي:
أولاً: إنه في يوم الثلاثاء، الموافق 2/2/2016، في تمام الساعة (12:41) ظهراً؛ قام ثلاثة عناصر من الشرطة الفلسطينية بالقبض على د. عبد الستار قاسم، البالغ من العمر (67) عاماً، من منزله الكائن في حي نابلس الجديدة جنوب مدينة نابلس، وبمتابعة شريط كاميرا المراقبة المنزلي يظهر أن توقيت القبض جرى في الساعة (13:41) ظهراً ، وأن عملية القبض استغرقت أقل من دقيقتين، وقد أكدت السيدة أمل الأحمد، زوجة د. قاسم، في إفادتها للباحث الميداني لمؤسسة الحق أن شريط المراقبة المنزلي مضبوط على التوقيت الصيفي (زيادة ساعة) ما يعني عملية القبض على د. عبد الستار قاسم جرت في الساعة (12:41) ظهراً.
ثانياً: بعد التحقق من صحة شريط الفيديو المنزلي، فإنه لا يبدو واضحاً من خلال الشريط أن عناصر الشرطة قد أبرزوا مذكرة قبض من النيابة العامة وأطلعوا د. عبد الستار قاسم على مضمونها لحظة عملية القبض عليه؛ عملاً بأحكام المادة (112) فقرة (1) من قانون الإجراءات الجزائية رقم (3) لسنة 2001 التي تنص على أنه "يجب على القائم بتنفيذ المذكرة أن يُبلغ مضمونها للشخص الذي قبض عليه، وأن يطلعه عليها". وحيث أنه يتوجب على مأموري الضبط القضائي إبراز مذكرة قبض من النيابة العامة وإطلاع الدكتور قاسم عليها، وأن يكون هذا الأمر القضائي بحوزتهم، لحظة إجراء عملية القبض؛ وإلاّ كان القبض بدون مذكرة خلافاً لأحكام نص المادة (11) فقرة (2) من القانون الأساسي التي تؤكد عدم جواز إجراء القبض دون أمر قضائي وفقاً لأحكام القانون، وحيث أن مأموري الضبط القضائي يخضعون لإشراف ومراقبة النائب العام بموجب المادة (20) من قانون الإجراءات الجزائية، وحيث أن هذا الإجراء يتعلق بالضمانات الواردة في القانون الأساسي وقانون الإجراءات الجزائية وفي المعايير الدولية لحقوق الإنسان في مرحلة ما قبل المحاكمة، فإن مؤسسة الحق تطالب عطوفة القائم بأعمال النائب العام التحقق من سلامة تنفيذ هذا الإجراء، وتبعاً اتخاذ المقتضى القانوني اللازم، بما يكفل تحقيق سبل الانتصاف الفعّالة.
ثالثاً: أكدت زوجة الدكتور قاسم، في إفادتها الخطية لباحث الحق الميداني، أنها لم تكن متواجدة في المنزل لحظة القبض على زوجها في الساعة (12:41) وأنها عادت للمنزل حوالي الساعة (13:30) بعد الظهر، وعندما شاهدت كاميرا المراقبة، الذي يُظهر قيام ثلاثة من عناصر الشرطة بالقبض على زوجها، طلبت من ابنها فيصل (28 عاماً) والذي لم يكن حسب إفادتها متواجداً في المنزل لحظة القبض على والده؛ طلبت منه التوجه فوراً إلى مركز شرطة مدينة نابلس للاستفسار عن والاطمئنان على صحة د. عبد الستار قاسم، وأنه قد توجه بالفعل إلى مركز الشرطة وسأل عن والده، وبعد حوالي نصف ساعة من الانتظار بجانب بوابة المركز ؛جرى إبلاغه بأن والده "غير موجود" في مركز شرطة المدينة، وأن بإمكانه تقديم "بلاغ اختطاف" بشأن أبيه لدى المباحث في تلك الحالة. وتقول السيدة أمل الأحمد في إفادتها إن الشرطة لم تسمح لزوجها بالاتصال بها بعد إلقاء القبض عليه، لأنه يظهر في شريط كاميرا المراقبة حاملاً بيده جهازه النقال، وإنه يتصل بها في العادة عندما يذهب إلى أي مكان فكيف الحال عندما يتم القبض عليه؟ وأضافت السيدة الأحمد في إفادتها، إنه وبعد الاتصالات والمتابعات تأكدت في نهاية المطاف بعد اتصال هاتفي من مدير شرطة نابلس عند الساعة (17:30) مساءً بأن زوجها محتجز فعلاً في مركز شرطة مدينة نابلس.
رابعاً: إن عدم تمكين المقبوض عليه من حقه في الاتصال بمحام، ومن إبلاغ أسرته بمكان وجوده، فور تنفيذ إجراء القبض، على النحو الوارد في (البند ثالثاً) أعلاه ينطوي على انتهاك دستوري لحقوق وضمانات المقبوض عليه الواردة في المادة (12) من القانون الأساسي التي ربطت إجراء القبض - كما التوقيف- بتمكين المقبوض عليه من الاتصال بمحام، حيث أكد النص المذكور على أن "يبلغ كل من يقبض عليه أو يوقف بأسباب القبض عليه أو إيقافه، ويجب إعلامه سريعاً بلغة يفهمها بالاتهام الموجه إليه، وأن يمكن من الاتصال بمحام، وأن يقدم للمحاكمة بدون تأخير". ونظراً لمدى أهمية تلك الحقوق والضمانات، في مرحلة ما قبل المحاكمة، فقد تصدت لها "لجنة مناهضة التعذيب" في التعليق العام رقم (2) على اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984 التي انضمت إليها دولة فلسطين دون تحفظات؛ حيث أكدت اللجنة الدولية على وجوب أن يُبلَّغ الشخص فور القبض عليه بحقه في الاتصال بالأقارب، وحقه في الاستعانة بمحام، وأن يُمكن من ذلك. وهذا ما أكدت عليه أيضاً اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة في ملاحظاتها الختامية على تقارير الدول الأطراف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي انضمت إليه دولة فلسطين بدون تحفظات. وأكدته أيضاً المادة (13) من مجموعة المبادىء الدولية المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن لعام 1988.
وحيث أن ما ورد في إفادة زوجة د. عبد الستار قاسم في ( البند ثالثاً) أعلاه يشير إلى وجود إنتهاك لأحكام القانون الأساسي المعدل والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، بما يشمل مدونة قواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1979، وحيث أن مأموري الضبط القضائي يخضعون لإشراف ومراقبة النائب العام بموجب المادة (20) من قانون الإجراءات الجزائية، فإن مؤسسة الحق تطالب عطوفة القائم بأعمال النائب العام التحقق من سلامة تنفيذ هذا الإجراء، وتبعاً اتخاذ المقتضى القانوني اللازم بما يكفل تحقيق سبل الانتصاف الفعّالة.
خامساً: أكدت المادة (106) من قانون الإجراءات الجزائية على أن "1. لوكيل النيابة أن يصدر بحق المتهم مذكرة حضور للتحقيق معه 2. إذا لم يحضر المتهم أو خشي فراره، جاز لوكيل النيابة أن يصدر بحقه مذكرة إحضار". وحيث أن الحرية الشخصية هي الأصل وفقاً لأحكام القانون الأساسي والمعايير الدولية وأن إجراء القبض هو استثناءٌ على الأصل ينطوي على مساس بالحرية الشخصية، وحيث أن النيابة العامة أصدرت "مذكرة قبض (إحضار) ابتداءً" بحق د. قاسم، وحيث أن الدكتور قاسم هو أستاذ جامعي في العلوم السياسية، وله مكان إقامة معلوم، وحيث أن الحق في محاكمة عادلة من الحقوق الأساسية للإنسان وهو حجر الزاوية في النظام الدولي لحقوق الإنسان، فإن مؤسسة الحق تطالب عطوفة القائم بأعمال النائب العام التحقق من سلامة هذا الإجراء، بما يحقق سبل الانتصاف الفعّالة، وتأمل اتخاذ المقتضى اللازم لإحالة الملف إلى "التفتيش القضائي" وفقاً للإجراءات الواردة في قرار رقم (2) لسنة 2006 بشأن النظام الأساسي لإدارة التفتيش القضائي بالنيابة العامة وقرار رقم (3) لسنة 2006 بشأن قواعد مباشرة العمل بإدارة التفتيش القضائي بالنيابة العامة.
سادساً: تنظر مؤسسة الحق، بقلق بالغ، لما ورد في محضر الجلسة التي عقدتها محكمة صلح نابلس الموقرة يوم الخميس الموافق 4/2/2016 للنظر في الطلب (51/2016) " تمديد توقيف وإخلاء سبيل" المتعلق بالدكتور عبد الستار قاسم، فيما يخص ضمانات مرحلة ما قبل المحاكمة، حيث قررت المحكمة تمديد توقيف د. قاسم بناء على طلب النيابة العامة بالحد الأقصى للتمديد الأول لمدة "خمسة عشر يوماً " في مركز إصلاح وتأهيل نابلس ورفض طلب إخلاء السبيل المقدم من محامي الدفاع؛ ودون وجود "ملف تحقيقي" بين يدي المحكمة الموقرة بتأكيد محامي الدفاع الوارد في محضر الجلسة المذكورة، وتأكيد باحث مؤسسة الحق الميداني الذي تابع كافة مجريات تلك الجلسة العلنية. وحيث أن الأصل الدستوري والثابت في المعايير الدولية هو الحرية الشخصية، وأن التوقيف هو استثناءٌ على الأصل، وهو تدبير احترازي وليس عقوبة، ويعد من أخطر إجراءات التحقيق لمساسه بالحرية الشخصية، وقرينة البراءة المفترضة في أي متهم، ولأن غياب الملف التحقيقي والحالة تلك يمس بحقوق وضمانات الإنسان في محاكمة عادلة مساً واضحاً، فإن مؤسسة الحق تأمل اتخاذ المقتضى اللازم لإحالة الملف إلى "التفتيش القضائي" وفقاً للإجراءات الواردة في قرار مجلس القضاء الأعلى رقم (4) لسنة 2006 بلائحة التفتيش القضائي.
إن كل محاكمة جزائية تشهد بمدى التزام الدولة باحترام حقوق الإنسان وضمانات المحاكمة العادلة.
-انتهى-