تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي هجومها العسكري واسع النطاق على قطاع غزة للشهر الثامن على التوالي، مستخدمة جميع الوسائل والإجراءات التي تلحق أضرارًا واسعة بالمدنيين والمدنيات والمنشآت المدنية. وقد خلق ذلك أزمة إنسانية غير مسبوقة، حيث ترتكب المجازر بشكل ممنهج ضد عائلات بأكملها في منازلهم وتلاحقهم في أماكن نزوحهم. كما دمر الاحتلال البنى التحتية واستهدف المنشآت الصحية والمدارس ودور العبادة ومصادر الغذاء والمياه والكهرباء. وتمنع قوات الاحتلال دخول المساعدات، بما في ذلك المعدات وقطع الغيار والوقود اللازم لعمل البلديات ومحطات تحلية المياه، مما ينذر بتفاقم الكارثة الإنسانية ويهدد حياة السكان بسبب تكدس النفايات والمياه العادمة وصعوبة الحصول على المياه النظيفة ومياه الشرب.
وبحسب بلدية دير البلح في المحافظة الوسطى، فإن هناك حوالي المليون شخص في المدينة أغلبهم من النازحين والنازحات الذين زادت أعدادهم في المدينة بعد الهجوم البري على رفح، وهم موزعين على (110) مخيم نزوح، وتعتمد المحافظة بنسبة (90%) على مياه الآبار، و(7%) على مياه شركة مكروت من جانب قوات الاحتلال، و(3%) على مياه محطة التحلية. وبسبب منع قوات الاحتلال إدخال المعدات وقطع الغيار اللازمة لعمل البلدية والوقود اللازم لتشغيلها، فإن (16) بئراً وخزاني مياه قد توقفت عن العمل، في حين أن (80%) من الآبار العاملة هي بأمس الحاجة لصيانة طارئة، والقدرة التشغيلية للآبار حاليا لا تتعدى (60%).
ومع وصول مخزون الوقود إلى الصفر، فإن الآبار مهددة بالتوقف خلال الأيام القادمة، وهناك بعض الأحياء لم تصلها المياه منذ (20) يوماً، وحوالي (90%) من آليات البلدية قد خرجت عن الخدمة، من بينها شاحنتي جمع قمامة، ما تسبب في تكدس ما يزيد عن (350) طن من النفايات بشكل يومي رغم عمل البلدية بطاقتها القصوى المتاحة لإزالة ما يمكن ازالته. وقد تسبب هذا التكدس في انتشار واسع للحشرات والأمراض بين السكان.
كما وتعاني بلديات محافظة خانيونس من ضعف في الخدمات المقدمة بعدما دمرت قوات الاحتلال (9) خزنات مياه رئيسية من أصل (10)، ودمرت (45) بئر مياه من أصل (60) بئر، ودمرت وجرفت (350) كيلو متر طولي من أصل (700) كيلو متر لشبكات المياه الرئيسية، ودمرت (70) كيلو متر من شبكات الصرف الصحي الرئيسية. كما ترتب على تدمير مولدات الطاقة عدم القدرة على تشغيل منظومة المياه والصرف الصحي، ودمرت أيضاً المخازن المركزية التابعة لمصلحة المياه ومخازن الطوارئ في البلديات، مما خلق عجزا في توفر مواد الصيانة لتلك الشبكات والمرافق على حد سواء. وقدرت الأضرار في شوارع محافظة خانيونس بأنها حوالي (117.500) متر طولي من الطرق المعبدة من أصل (155.000) خلال ودمرت خلال الهجوم البري على المحافظة ما ألحق اضراراً ترتب عنها عدم توفر المياه والخدمات الأخرى. يذكر أن خانيونس تستضيف حاليا حوالي (500.000) نسمة من سكانها ومن النازحين إلى المدينة من رفح منذ 7 مايو/أيار الحالي بعد أوامر الاخلاء التي فرضتها قوات الاحتلال، ما فاقم الواقع الانساني فيها.
كما لحقت بمحطات الصرف الصحي في مدنية خانيونس أضراراً جسيمة نتيجة الهجمات الإسرائيلية على المدينة، التي أدت إلى غرق الشوارع بمياه الصرف الصحي وانتشار الأمراض وتفشي الأوبئة، وانهيار خدمات الصرف الصحي بشكل كامل، وتضرر الخزان الجوفي للمياه بفعل تسرب مياه الصرف الصحي لباطن الأرض.
ولا يقتصر الأمر على بلديات دير البلح وخانيونس، فقد أُخرجت بلديات أخرى عن الخدمة بشكل كامل، لا سيما في محافظة غزة وشمال غزة، حيث يواجه سكان تلك المناطق واقعاً مأساوياً.
وبسبب تضاعف نزوح السكان وتكدسهم في مناطق حددتها قوات الاحتلال في خانيونس ودير البلح كمناطق أمنة أصبحت القدرة الخدماتية لإيصال المياه اللازمة للاستخدام اليومي ومياه الشرب وجمع النفايات في ظل محدودية الإمكانيات شبه مستحيلة. إضافة فقد عملت قوات الاحتلال على استهداف البنى التحتية، ومنعت دخول المعدات وقطع الغيار والوقود اللازم لتشغيل الآبار وتحلية المياه، وحتى عربات بيع المياه أصبحت غير قادرة على العمل بسبب نقص الوقود، ما أجبر عدد كبير من الناس على شرب المياه الملوثة، والاستعانة بمياه البحر للاستخدامات الشخصية.
كما أدى نقص الوقود إلى تراكم النفايات وانتشار الروائح الكريهة بين السكان، وضاعف من سهولة انتشار الأمراض والأوبئة، وجعل المدنيين عرضة لجميع أشكال الخطر، لا سيما خطر الإصابة بالأمراض في ظل استهداف المنظومة الصحية، وعجزها عن تقديم خدماتها. حيث سجلت منظمة الصحة العالمية في مطلع مايو/أيار الجاري، (712) ألف حالة مصابة بالالتهاب في الجهاز التنفسي العلوي، و(380) ألف إصابة بالإسهال، و(78,800) إصابة بالجرب، وسجل (47,800) حالة إصابة باليرقان في غزة منذ السابع من أكتوبر. تعد أمراض الجهاز التنفسي العلوي من الأمراض الخطيرة التي قد تودي بحياة المصابين خاصة من يعانون من ضعف المناعة، كما أن هناك عدة أمراض منتشرة في الجهاز الهضمي وخصوصاً عند الأطفال ما دون السن الخامسة، فهم أكثر عرضة للإصابة وتؤدي هذه الإصابات بين الأطفال إلى حالات وفاة.
وكانت قد حذرت اليونيسف في وقت سابق من أن "عدم توفر مياه آمنة سيؤدي إلى وفاة مزيد من الأطفال قريباً بسبب الأمراض، وأن الحصول على كميات كافية من المياه النظيفة هو مسألة حياة أو موت مما يضطر الأطفال وأسرهم إلى استخدام المياه من مصادر غير آمنة شديدة الملوحة أو ملوثة".
أفاد (أ.م) والذي يبلغ من العمر (40 عاماً)، وهو نازح في خيمة في مواصي خانيونس لباحثينا بما يلي:
"... أسير أنا وأبنائي مسافة كيلو متر يومياً تقريباً لجلب المياه من الشارع الرئيسي حيث تصطف بعض سيارات بيع المياه، ونقوم بحمل غالونات المياه الثقيلة، حتى أصبح ظهري يؤلمني، ولا أستطيع النوم من شدة الألم، عندها أوكلت المهمة لأبنائي، أما في مكان إقامتي، فالرائحة سيئة، والباعوض والذباب منتشر بكثرة، ... وأصيب ابني ذو العشرة أعوام بمرض لم يستطع من خلاله الأكل والشرب، ذهبت به إلى مستشفى شهداء الأقصى في محافظة دير البلح، ... وبعد انتظار لعدة ساعات، استطعت رؤية الطبيب الذي كشف عليه وقال لي أنه يعتقد بأنه يعاني من جرثومة، وأنه من المؤكد تناول أو شرب شيئاً ملوثاً، وكتب له دواء اشتريته من خارج المستشفى لعدم توفره فيه."
تدين مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية بشدة جرائم قوات الاحتلال، لا سيما استهدافها للمدنيين والمدنيات بشكل مباشر من خلال القصف والقتل والتدمير، كما وتؤكد مؤسساتنا بأن حصار قوات الاحتلال لقطاع غزة، ومنع دخول إمدادات الغذاء والدواء والوقود اللازم لعمل البلديات ومحطات المياه والتحلية، وما ينتج عنه من تعطيش للسكان ودفعهم لاستخدام المياه الملوثة، وسط تراكم النفايات وإصابتهم بالأمراض، ووضع السكان في ظروف غير إنسانية وكارثية قد تفضي إلى الوفاة، وهذه أيضا جرائم لا تقل خطورة عن جرائم القتل المباشر.
وعليه، تطالب مؤسسات حقوق الإنسان، مركز الميزان، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ومؤسسة الحق، المجتمع الدولي بالتحرك الجاد والفوري لإجبار دولة الاحتلال الإسرائيلي على وقف إطلاق النار والانسحاب من الأماكن التي تسيطر عليها، وإنهاء حصارها لقطاع غزة، وضمان احترام قوات الاحتلال للتدابير الاحترازية التي أقرتها محكمة العدل الدولية الخاصة بمنع ارتكاب إبادة جماعية بحق 2.3 مليون فلسطيني وفلسطينية في قطاع غزة، كما ونؤكد على ضرورة ملاحقة مرتكبي الجرائم من الإسرائيليين وتقديمهم للعدالة. ونطالب المجتمع الدولي بضرورة الضغط على قوات الاحتلال من أجل ضمان دخول ووصول المساعدات الإنسانية من الغذاء والدواء والوقود اللازم لتشغيل المرافق التي لا غنى عنها لحياة السكان، وبكميات تكفي لسد حاجتهم، وإتاحة المجال أمام المنظمات الدولية لمباشرة أنشطتها الإغاثية وبأسرع وقت ممكن.