يشكل دخول الهجوم العسكري الإسرائيلي الواسع على قطاع غزة اليوم الثلاثاء، 23 أبريل/نيسان 2024، يومه الـ 200 على التوالي، محطة جديدة ومؤلمة تظهر فشل المجتمع الدولي في إلزام دولة الاحتلال بوقف عدوانها، أو حماية المدنيين والمدنيات الفلسطينيين، أو الالتزام بقرار محكمة العدل الدولية القاضي باتخاذ تدابير لمنع جريمة الإبادة الجماعية المتواصلة منذ 7 أكتوبر/تشرين أول الماضي.
وتستمر قوات الاحتلال في تنفيذ هجماتها بلا هوادة أو توقف عبر الجو والبر والبحر والقتل الجماعي، والتدمير الواسع والممنهج لجميع مقومات الحياة في قطاع غزة، سواء على صعيد المنازل السكنية التي دمر مئات آلاف الوحدات السكنية منها بين تدمير كلي أو جزئي، وكذلك تدمير البني التحتية والمؤسسات التعليمية والصحية، مع استمرار نزوح قرابة 90% من السكان، يعيشون واقعًا بائسًا في الخيام أو يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في الأراضي الزراعية وما تبقى من مدارس تستعمل كمراكز إيواء.
وبعد مرور هذه الأيام الطويلة والقاسية، وبدلا من أن تستجيب إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، لأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع الإبادة الجماعية، تواصل التهديد منذ عدة أسابيع بالهجوم البري الواسع على مدينة رفح، لتستكمل فصول الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين والفلسطينيات في المدينة الحدودية التي تؤوي أكثر من 1.2 مليون إنسان من سكانها والنازحين إليها، يعيشون في ظروف صعبة ويترقبون ما ستحمله الأيام القادمة.
وتتابع مؤسساتنا، بقلق بالغ تصاعد وتيرة القصف الإسرائيلي على رفح، سواء من خلال تكثيف سياسة قصف المنازل على رؤوس قاطنيها المدنيين وقتلهم جماعيًا، أو من خلال القصف المدفعي العنيف والأحزمة النارية التي تسعى إلى ترهيب السكان. وتزداد المخاوف من اقتراب موعد تنفيذ الهجوم الإسرائيلي بعد حديث وسائل إعلام إسرائيلية عن شراء الجيش الإسرائيلي آلاف الخيام لاستيعاب المهجرين من رفح، وما ذكرته هيئة البث الإسرائيلية بتوسيع ما يسمى المنطقة الآمنة في المواصي وأنها تستوعب نحو مليون شخص، رغم ضيق مساحتها (تمتد بعمق كيلو متر من حدود خانيونس إلى حدود رفح)، وهي مكتظة بالفعل بمئات آلاف النازحين والنازحات.
وسبق أن أطلقت مؤسساتنا تحذيرات وعبرت عن مخاوف جدية بأن أي هجوم بري واسع على رفح على غرار ما حدث في معظم محافظات قطاع غزة من شأنه أن يحدث مذبحة مروعة ويطرح سيناريوهات النكبة الثانية مع اكتظاظ المدينة الحدودية بمئات آلاف النازحين والنازحات الذين يعيشون في خيام، ويعتمدون بشكل أساسي على المساعدات التي تدخل عبر معبر رفح ومعبر كرم أبو سالم، اللذان يتوقع أن يغلقا في حال تم تنفيذ الهجوم الإسرائيلي، مع عدم توفر بدائل ملائمة لنزوح سكان رفح والنازحين فيها بعد كل هذه الأشهر من القصف والتدمير الذي غيّر معالم قطاع غزة وطمس ملامحها.
وتشير مؤسساتنا إلى الحصيلة القاسية للهجوم العسكري الإسرائيلي على مدار 200 يوم والتي أدت وفق آخر تحديث لوزارة الصحة الفلسطينية صباح اليوم 23 أبريل/نيسان الجاري، إلى استشهاد 34,183 فلسطيني، بينهم 14,778 طفلا ونحو 10 آلاف سيدة، وإصابة 77,143 آخرين.
وتؤكد طواقمنا، أن العدد الفعلي للشهداء هو أكبر بكثير من الرقم المعلن؛ بالنظر لوجود أعداد كبيرة من الضحايا وهم بالآلاف (بين 7-8 آلاف مفقود/ة) تحت الأنقاض أو في الشوارع، وتوالى خلال الأيام الماضية انتشال أعداد منهم وسط أنباء عن العثور على أشخاص مقيدين مدفونين في مقابر جماعية في مستشفى ناصر ومستشفى الشفاء، ما يشير إلى احتمال قتلهم من الجيش الإسرائيلي بعد اعتقالهم، وكل ذلك يستوجب فتح تحقيق دولي جدي ومستقل. يشار إلى أنه اضطر المواطنون إلى عمل مقابر مؤقتة في المستشفيات والأسواق والشوارع وقرب المنازل المدمرة لتعذر نقل الشهداء للمقابر الرسمية.
وتلفت مؤسساتنا إلى ما أعلنته منظمة اليونيسف بأن طفلًا يُقتل أو يُصاب بجروح كل 10 دقائق في قطاع غزة جراء الهجوم الإسرائيلي، وذلك مؤشر على أن الأطفال والنساء وكبار السن وعموم المدنيين هم الذين يدفعون الثمن الباهظ جراء سياسات دولة الاحتلال الانتقامية.
وتشير مؤسساتنا إلى أنه بعد 200 يوم من الهجوم الإسرائيلي العسكري يرزح السكان تحت واقع صعب، حيث تفشت الأمراض والأوبئة وأصابت نحو نصف السكان، وتغيرت ملامح العديد من الأحياء السكنية ودمرت غالبية الشوارع، وتوقفت أغلب الأنشطة الاقتصادية، حتى الموظفين العموميين وفي القطاع باتوا بصعوبة يتلقون رواتبهم نتيجة عدم توفر السيولة، وبات الجميع بنسبة تقترب من 100% من متلقي المساعدات.
ولا يزال قطاع غزة يعاني من انهيار المنظومة الصحية، بعد خروج غالبية المستشفيات الحكومية والخاصة بما فيها مستشفى الشفاء ومستشفى ناصر أكبر مستشفيين في غزة وخانيونس، حيث عملت قوات الاحتلال على مدار أيام العدوان على استهداف المستشفيات والمراكز الصحية بشكل ممنهج وحولتها إلى ساحات قتل وتدمير ومقابر جماعية.
وحرم مئات آلاف الطلبة من تعليمهم سواء في المدارس أو الجامعات بعد أن توقف بسبب الحرب، فيما تبدو أفق استئناف الدراسة غير واضحة حال وقف العدوان لأن الدمار طال غالبية المدارس والجامعات فضلا عن استشهاد الآلاف من الطلبة والعاملين في السلك التعليمي والمحاضرين الجامعيين.
ورغم أن قوات الاحتلال انسحبت من داخل بعض المدن كما حدث في خانيونس وغزة وشمالها، إلاّ أنها لازالت تمنع عودة السكان إلى مناطق سكناهم التي طالها التدمير والخراب، وهي تستمر بشن الغارات والقصف في هذه المناطق التي استكملت سابقًا فيها كل هجماتها العسكرية، إلى جانب بقاء التخوف من العودة المفاجئة للهجوم البري كما حدث سابقًا عدة مرات وآخر ذلك ما حدث الليلة الماضية من عودة للهجوم البري في مدينة بيت حانون.
وتواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي الإخفاء القسري لآلاف المعتقلين والمعتقلات من قطاع غزة بعدما اعتقلتهم من مناطق الهجوم البري أو خلال محاولتهم النزوح والخروج من الأماكن المحاصرة. وتلقت مؤسساتنا عشرات الشهادات من معتقلين مفرج عنهم تعرضوا لانتهاكات جسيمة وخطيرة وتكاد تكون غير مسبوقة، شملت التعرية والتحرش والتعذيب بالضرب حتى القتل، وتسببت الأصفاد الحديدية والبلاستيكية ببتر أطراف العديد من المعتقلين، وخرج بعضهم وهم يعانون من فقدان للذاكرة مع علامات وندوب لا تزال على أجساد غالبيتهم. ولم تسلم النساء أو الأطفال أو الأشخاص ذوي الإعاقة من هذه الأنماط القاسية من التعذيب.
وبعد 200 يوم، تتجلى أكثر الأهداف الحقيقية للهجوم على القطاع والإبادة الجماعية بهدف التهجير القسري لمن تبقى على قيد الحياة، استكمالاً ل 76 عاماً من النكبة هذا العام. لقد كان قطاع غزة، بكثافته السكانية، على مدى عقود، عبئا على استكمال المشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، ومنع تمدده في أقصى الساحل الجنوبي. وتهجير وإفراغ قطاع غزة من سكانه هو الهدف لاستكمال هذا المخطط. وتحذر مؤسساتنا بأن مخاطر التهجير ما تزال قائمة، ما لم يتدخل المجتمع الدولي بشكل فاعل لمنعها.
وتجدد مؤسساتنا، المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ومركز الميزان ومؤسسة الحق، مطالبتها للمجتمع الدولي بأن الصمت على ما يجري لم يعد مقبولاً، كما أنه لا يمكن الاكتفاء ببيانات الإدانة إزاء ما يجري من إبادة جماعية وتدمير إسرائيلي ممنهج للبشر والحجر والشجر في قطاع غزة، في سياق متعمد لتدمير مقومات الحياة الفلسطينية.
وتحذر مؤسساتنا المجتمع الدولي، خصوصاً الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة والمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية والمفوض السامي لحقوق الإنسان، من خطورة الوضع القائم في قطاع غزة وتطالبهم باتخاذ تدابير فورية لمنع النكبة الجديدة في فلسطين ووقف الإبادة الجماعية ضد قطاع غزة.
كما تحذر مؤسساتنا شركاء إسرائيل في جريمة الإبادة الجماعية، سواء بدعمهم العسكري والسياسي غير المحدود لدولة الاحتلال أو بصمتهم، وتطالبهم بالوفاء بالتزاماتهم القانونية قبل فوات الأوان، وتطالبهم باتخاذ خطوات عملية لحماية المدنيين/ات الفلسطينيين/ات ووقف القتل الجماعي ومنع استكمال جريمة الإبادة الجماعية المستمرة.
وتطالب المجتمع الدولي بتأمين عودة السكان إلى مناطق سكناهم وتوفير مقومات الحياة الأساسية اللازمة لهم من خدمات مياه وفتح الطرق المغلقة وغيرها.
وتجدد مؤسساتنا تحذيراتها أمام استمرار التهديد الإسرائيلي بالهجوم البري على رفح، بأنه سوف يشكل ذروة الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة وأن الهدف منه هو إيقاع أكبر قدر من الشهداء والجرحى في صفوف المدنيين/ات وإجبارهم على النزوح جنوباً باتجاه الحدود المصرية التي لا تبعد عنهم سوى عشرات الأمتار، وعندئذ ستفرض نكبة جديدة على الشعب الفلسطيني وتصبح أمراً واقعاُ لا محالة.
ونؤكد أن مفتاح حل الأزمة في المنطقة وللأبد يتمثل في إنهاء الاحتلال وتفكيك الاستعمار الاستيطاني ونظام الفصل العنصري الإسرائيلي، وإلغاء جميع القوانين والسياسات والممارسات التمييزية واللاإنسانية ضد الشعب الفلسطيني بأكمله، وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير وعودة اللاجئات واللاجئين دون قيد أو شرط.