صورة طفل توفى بسبب سوء التغذية والجفاف في مستشفى كمال عدوان. عدسة المصور موسى سالم بتاريخ 23 فبراير/شباط 2024
مارس/آذار 2024
مقدمة
منذ بداية هجومها العسكري على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 استخدمت دولة الاحتلال الإسرائيلي التجويع كسلاح للحرب، وأدى ذلك إلى حصول مجاعة حقيقة في بعض مناطق القطاع، وإلى وفاة العديد جوعًا، من بينهم أطفال. يسلط هذا التقرير الضوء على جريمة الإبادة الجماعية واستخدام التجويع كسلاح حرب، من خلال عرض بعض من الشهادات التي قدمها فلسطينيون وفلسطينيات لمؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية الثلاث، مركز الميزان، ومؤسسة الحق والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.
عمدت قوات الاحتلال الإسرائيلي في معرض تحضيرها لهجومها البري على قطاع غزة إلى عزل منطقة شمال قطاع غزة عن الجنوب من خلال قصف الطرق والجسور وإنشاء حواجز عسكرية على الطريق الساحلي وطريق صلاح الدين، وأًصبح الأمر يتطلب الحصول على الموافقة الإسرائيلية للسماح للشاحنات بالوصول إلى منطقة شمال قطاع غزة الذي يتواجد فيه نحو (300,00)[1] فرد.
وشكل تشديد حصار وإغلاق قطاع غزة ومنع الحركة والتنقل بما في ذلك منع وعرقلة عمليات الإغاثة وتزويد السكان بالمواد الغذائية والإمدادات الطبية والمقويات اللازمة للأطفال خاصة الحليب المخصص للرضاعة، وقطع التيار الكهربائي وحظر دخول المحروقات والسولار بكميات كافية لتشغيل المنشآت والخدمات الأساسية، أسلوبا جوهريا لإبادة السكان ودفعهم للهجرة القسرية من قطاع غزة وخاصة من مدينة غزة وشمالها.
وتكشف أعداد شاحنات المساعدات الإغاثية التي تدخل إلى قطاع غزة مدى صعوبة الإجراءات التقييدية التي تفرضها سلطات الاحتلال على قطاع غزة منذ بداية الهجوم العسكري، حيث قدرت المؤسسات الدولية معدل الشاحنات اليومي الذي دخل القطاع في شهر فبراير/ شباط 2024، بنحو (97) شاحنة، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى، والذي قدِّر بنحو 500 شاحنة في اليوم قبل العدوان. الأمر الذي حال دون تلبية حاجة أكثر من مليوني فلسطيني/ة في قطاع غزة الذين باتوا يواجهون تهديد حقيقي على بقائهم.
تسبب منع مرور المساعدات الإغاثية والمواد الغذائية إلى شمال قطاع غزة في انتشار الجوع على نطاق واسع، حيث حرم الآلاف من الحصول على الغذاء والماء الذي يبقيهم على قيد الحياة، وتسببت المجاعة في تدهور صحة الأطفال والحوامل والمرضى المزمنين وكبار السن بشكل أكبر من غيرهم. وبحسب آخر تحديث لوزارة الصحة الفلسطينية بغزة، يوم الثلاثاء، 12 مارس/آذار 2024، ارتفع عدد الوفيات بسبب سوء التغذية والجفاف في شمال القطاع إلى (27) شخص، الأمر الذي دفع بعض السكان إلى المغامرة والهروب إلى جنوب القطاع في ظروف قاهرة بحثاً عن الطعام والشراب.
وبرز خلال الأسابيع الأخيرة، إطلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي النار المتعمد تجاه آلاف السكان الجائعين الذين دفعهم الجوع ونفاد كل المواد الغذائية في محافظة غزة وشمال غزة، إلى التوجه إلى أماكن قريبة من الحاجزين الإسرائيليين على شارع صلاح الدين وشارع الرشيد جنوب غزة، حيث تصل أحيانا شاحنات تحمل بعض المساعدات وتتوقف قرب الحاجز، ليجدوا أنفسهم عرضة للاستهداف، وهو ما أدى إلى وقوع مئات الشهداء والجرحى.
يتناول التقرير مجموعة من الإفادات التي صرح بها النازحون والنازحات الفارون من المجاعة لباحثي المؤسسات الثلاث، ويستعرضها التقرير على النحو الآتي:
- إطلاق النار تجاه منتظري المساعدات وقتل وإصابة أعداد منهم:
كررت قوات الاحتلال الإسرائيلي إطلاق النار تجاه المدنيين الذين يتجمعون قرب الحاجزين المقامين على طريق صلاح الدين، وشارع الرشيد جنوب مدينة غزة، بانتظار وصول قوافل المساعدات، وتكرر الأمر عشرات المرات، ما تسبب بوقوع مئات الشهداء والجرحى، وفي حالة على الأقل أجبرت تلك القوات عشرات المنتظرين على التوجه إلى جنوب وادي غزة. وتوظف قوات الاحتلال عمليات إطلاق النار هذه مع اشتداد وتيرة التجويع وحرمان السكان من أي موارد لدفعهم للنزوح باتجاه الجنوب.
وأفاد السيد محمد جمال أبو سمعان، من سكان حي الزيتون بمدينة غزة، لباحثنا ما يلي:
"أترقب موعد وصول الشاحنات المحملة بالمساعدات كالعشرات من سكان شمال القطاع، كان آخرها يوم الأحد 18 فبراير/شباط، حيث علمت أنها ستصل الساعة التاسعة صباحاً عبر شارع الرشيد، وذلك بعد فترة انقطاع دامت ثلاث أسابيع. تكبدت عناء المشي في أجواء ماطرة حتى وصلت منتظراً الشاحنات، وبمجرد وصولها توجه الآلاف إليها غير عابثين بالخطر المتمثل بوجود آليات الجيش الإسرائيلي والتي قامت بإطلاق النار علينا لتصيب عدد من المدنيين، هذا غير عشرات الإصابات بسبب التدافع للحصول على أكياس الدقيق. عدت إلى أطفالي وعائلتي بدون أي شيء هذه المرة، ونستمر في استخدام بدائل الدقيق من طحن أعلاف الطيور والحيوانات. وأنا مُضطر إلى هذه المخاطرة للحصول على الدقيق، حيث لا أستطيع شراؤه في حال توفر في السوق المحلية بأسعار عالية بلغت نحو 700$ للكيس الواحد".
وأفادت المسنة سميرة عيسى، 68 عاماً، من حي النصر بمدينة غزة، لباحثينا بما يلي:
" "أعيش أنا وزوجي المسن في شمال قطاع غزة، وذلك بعد أن نزح أبنائي مع زوجاتهم وأطفالهم إلى جنوب القطاع. لا يوجد طعام في المدينة، وعندما حاول زوجي الذهاب لانتظار شاحنات الطحين على طريق شاطئ بحر غزة، تعرضوا لإطلاق النار من الجيش الإسرائيلي، وتعرض بعض المدنيين لإصابات نتج عنها حالات وفاة. وفي كل مرة يعود زوجي دون أن يتمكن من الحصول على الطحين. ونقوم بخلط الماء والنشا لنتمكن من سد جوعنا".
وأفاد السيد محمود إبراهيم عبد السلام عبيد، 30 عاما لباحثينا:
"من شدة الجوع توجهت يوم 29 فبراير/شباط، لأول مرة لأخذ المساعدات، وهذه المرة الأولى. لم أشاهد أحد اقترب من الدبابة التي كانت تتمركز قرب شارع الرشيد، أخذت من الشاحنة الأولى، وعندما استدرت أصبت بعيار ناري في ظهري وآخر في يدي في إطلاق نار من الدبابة".
وأفاد السيد عطية عبد الفتاح لافي، 34 عامًا، لباحثينا:
"دخلت الشاحنة الأولى والثانية والناس اقتربت منها وبدأت بأخذ المساعدات، ثم قدمت الشاحنة الثالثة والرابعة وعندها حدث إطلاق النار من قوات الاحتلال. تمكنت من أخذ حصة من المساعدات وبدأت بالعودة لمنزلي، عندها أصبت بعيار ناري في ظهري وأنا على بعد حوالي 700 متر من تمركز الدبابات الإسرائيلية".
- نقص السلع الأساسية وارتفاع أسعارها شمال قطاع غزة:
يعاني الفلسطينيون والفلسطينيات في محافظتي غزة وشمالها من انعدام الوصول إلى الغذاء والدواء والمياه، بعد أن توقفت المؤسسات الدولية والمحلية عن العمل في المنطقتين بفعل أوامر التهجير والهجمات الحربية الإسرائيلية، التي حالت دون إمكانية المزارعين من جني المحاصيل، ما فاقم أزمة الجوع. كما دمرت الهجمات الحربية مرافق البنية التحتية، ولاسيما آبار المياه ومولدات الطاقة الكهربائية التابعة للبلديات، بحيث منعت امداد السكان بالمياه للاستخدام المنزلي أو الشرب.
أفادت السيدة/ أماني رزق سعيد سلمان (43) عاماً، - من سكان مدينة بيت لاهيا، وهي متزوجة وأم لثلاثة أطفال، وزوجها يقيم خارج غزة منذ عامين طلباً للهجرة- بأنها قررت النزوح جنوباً بسبب شح السلع والبضائع الأساسية من الأسواق وارتفاع أسعارها.
" منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة رفضت مغادرة الشمال والنزوح جنوباً. لجأت إلى المدارس بحثاً عن الأمان من شدة القصف، وتنقلت بين عدد من مراكز الإيواء، حيث لجأت في الأسبوع الأول إلى مدرسة الفالوجة بمخيم جباليا، وخلال الهجوم البري قصفت قوات الاحتلال محيط المدرسة مما أسفر عن إصابة نازحين بداخلها، ثم قصفت فناء المدرسة، فاضطررت إلى النزوح إلى مستشفى اليمن السعيد بجباليا، ومكثت فيه 3 شهور. ولكن نظراً للاكتظاظ الشديد وضيق المكان وقلة الأكل لجأت مع أفراد أسرتي إلى مدرسة تل الربيع في بيت لاهيا ... تقوم إدارة الإيواء بتوزيع المتوفر من المساعدات مثل التمر والمعلبات والبقوليات لمرة واحدة في اليوم ... منذ 4 شهور لم أتناول الخبز، ولا أستطيع شراء الطعام بسبب ارتفاع أسعار المواد الأساسية بعد انخفاض المعروض من هذه السلع في الأسواق، حيث ارتفع سعر كيلو الأرز إلى (80) شيقل، ورطل الطحين إلى حوالي (300) شيقل، ورطل السكر ب(100) شيقل، وترافق ذلك مع شح المياه، وأشتري جالون المياه ب(5) شيقل. ومنذ 12 يوم لم نحصل على أي وجبة طعام أو مساعدة. لجأت إلى الأعشاب البرية مثل نبتة الخبيزة لصناعة الطعام للبقاء على قيد الحياة. يصرخ أطفالي من شدة الجوع، وأصيبوا بالأمراض ومنها الاسهال. النقص في الطعام والشراب دفعني إلى النزوح جنوباً. خرجت من مركز الإيواء في بيت لاهيا عند حوالي الساعة 7:00 صباحاً إلى منطقة الصفطاوي بغزة، ومن ثم ركبت سيارة أنا وأولادي إلى دوار النابلسي غرب غزة ومشينا جنوباً حتى وصلنا إلى الحاجز الإسرائيلي، الذي كان عبارة عن صندوق حديدي ارتفاعه 2م، وعرضه 1.5 متر وطوله 3.5 متر، ويوجد بداخله كاميرات وعدسات، وطلب الجندي الإسرائيلي أن نبتسم قبل الدخول لعملية الفحص وأن نرفع القبعات على الأطفال، ومن ثم تحركنا سيراً على الأقدام حتى وصلنا إلى الجسر الساحلي غرب النصيرات".
محمد معين عطا الله، متزوج وأب لطفل، محامي موظف في وحدة التدريب في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، سكان غزة أفاد لمؤسساتنا بما يلي:
"يوميا لا نأكل سوى وجبة واحدة وهي الغداء فقط، ويتم توزيع رغيف خبز واحد لكل فرد من أفراد الأسرة، ونبقى على هذه الوجبة لليوم التالي، وفى بعض الأيام نلجأ لأكل الطعام دون خبز من أجل توفيره لأيام قادمة. بلغ سعر كيلو الطحين من 80 الى 100 شيكل للكيلو الواحد، بينما سعر كيلو الشعير والذرة وصل ل 50 شيكل، وهناك عائلات لجأت إلى طحن علف الحيوانات والطيور والدواجن. إن استطعنا توفير وجبة الغذاء التي باتت ثابتة ومعروفة وتتكرر بشكل يومي كالعدس، أو الخبيزة، أو الأرز الأبيض، أو بعض المعلبات، التي ارتفع سعرها إلى الضعف، مع انقراض تام للدجاج والحبش من الأسواق منذ شهور طويلة، أما لحوم العجل فلا يشتريها إلاّ من يملك المال الفائض لأنه سعر كيلو اللحم من 130 إلى150 شيكل ولا يتوفر سوى عند بعض الجزارين. أصبحنا عاجزين، بل غير قادرين على شراء أغلب احتياجاتنا اليومية والأساسية من الطعام والخضار...الخ، لعدم وجود أموال، وارتفاع أسعارها، وانعدام وجودها".
- النزوح مشياً على الأقدام لمسافات طويلة:
واصلت قوات الاحتلال إرسال رسائل تطالب سكان غزة وشمالها بالنزوح جنوباً حيث تتوفر المساعدات الإنسانية، ومع ذلك رصد الباحثون استهداف النازحين والنازحات وهم في طريقهم إلى الجنوب، ما جعل الغالبية تحجم عن النزوح جنوباً خشية من استهدافهم. وعمد السكان إلى النزوح الداخلي في المناطق الشمالية عشرات المرات حيث يفرون من مناطقهم عند تعرضها للهجمات الحربية ويعودون إليها عندما يعتقدون بزوال الخطر.
أفادت السيدة/ جواهر محمد على الزين البالغة من العمر (39) عاماً - وهي متزوجة وأم لأربعة أطفال، وتسكن في تل الزعتر شمال قطاع غزة، وزوجها يعاني من الأمراض- أنها اضطرت للنزوح مشياً على الأقدام مع أطفالها لمسافات طويلة بسبب شح الطعام في شمال قطاع غزة. وجاء في افادتها ما يلي:
"بسبب اندلاع الحرب على قطاع غزة لم نتمكن من استلام المخصصات التموينية التي نحصل عليها من الأونروا، ومع بداية الحرب ومن شدة أعمال القصف لجأت إلى مخازن الوكالة (المؤن) التابع للأونروا بهدف الحماية، وبعد شهرين طلبت الأونروا من النازحين إخلاء المخازن تمهيداً لوصول المساعدات. عدت إلى منزلي ومن ثم اجتاحت الآليات العسكرية منطقة تل الزعتر، وبسبب صعوبة الظروف المادية حصلت من والدتي على مبلغ من المال لشراء السلع الأساسية وحرصت على تدبير أموري واقتصار الأكل في اليوم على وجبة واحدة. ومع مرور الأيام بدأت السلع الأساسية تختفي تدريجياً من الأسواق وترتفع أسعارها بشكل يفوق قدرتنا المادية. لم أتمكن منذ 40 يوما من الحصول على الطحين والبقوليات... وهذا العجز في الطعام دفعني أنا وأطفالي إلى النزوح جنوباً ... خرجت صباح يوم الأربعاء 6 مارس/آذار 2024، ووصلت إلى مستشفى الشفاء بغزة مشياً على الأقدام، ومن هناك ركبت سيارة أوصلتني إلى دوار النابلسي قرب الطريق الساحلي غرب مدينة غزة، شاهدت حوالي (80) شخص من المواطنين يقفون هناك ويستعدون للتوجه جنوباً. تحركنا مع بعضنا البعض وشاهدت على جانب الطريق من الناحية الشرقية عددا من جنود الاحتلال وآلياته. توقفنا على بعد 300 متر منهم، ثم صرخ علينا أحد الجنود عبر مكبرات الصوت وأمرنا بالدخول إلى الحاجز فرداً فرداً. دخلنا من وسط صندوق حديدي كبير مثبت في الطريق، ومن ثم واصلنا السير مشياً على الأقدام حوالي (5) كيلومترات، حتى وصلنا إلى الجسر الساحلي غرب مخيم النصيرات وهناك استقبلني بعض المواطنين وأعطوني الطعام وأخبروني عن وجود نقطة إغاثية تابعة لمؤسسة (World Central Kitchen) وقدم لنا الفريق وجبة طعام، وأنا الآن أنوي التوجه إلى مدينة رفح."
- إعداد الطعام من أعلاف الماشية وإصابة الأطفال بالأمراض:
أصرت قوات الاحتلال منع وصول المساعدات الغذائية ولاسيما الدقيق إلى شمال القطاع، وسمحت لعدد محدود جداً من الشاحنات بالوصول، وارتكبت عند وصولها مجازر بحق الجوعى الذين تجمعوا لانتظار المساعدات عند مفترق الكويت على شارع صلاح الدين والنابلسي على شارع الرشيد المحاذي لشاطئ البحر، ما دفع السكان للبحث عن أعلاف الطيور والحيوانات للاستعاضة فيها عن الدقيق.
أفادت السيدة/ نداء رزق سعيد أبو ستة (40) عاماً، - متزوجة وأم ل6 أطفال، وزوجها مريض، وتسكن في مدينة بيت لاهيا. بأنها تحملت القصف والملاحقة والخطر وبقيت في الشمال لكن الجوع دفعها للنزوح إلى الجنوب.
"... بعد اندلاع الحرب على قطاع غزة اضطررت من شدة القصف النزوح إلى مدرسة الفاخورة، كان عددنا حوالي (7,000) نازح/ة، وكان يوجد فيها اكتظاظ كبير، ونقص في الطعام والشراب، وبعد قيام قوات الاحتلال بالهجوم البري للشمال بدأت الأوضاع تزداد سوءً، حيث حاصرت الآليات المدرسة وأطلقت القذائف الصاروخية خلف المكتبة التي كنت أتواجد بداخلها وأصبت بشظايا الزجاج الذي تناثر جراء القصف في أطرافي العلوية وأصيبت ابنتي ريماس (13) سنة في الرأس ... مكثت 20 يوم في المدرسة، ثم هربت إلى مستشفى كمال عدوان مع أطفالي، وبعد يومين لاحقنا القصف للمستشفى، فانتقلت ولجأت إلى مستشفى اليمن السعيد في جباليا، حاولت الذهاب إلى منزلي وجدته مدمر، فاضطررت إلى المكوث في المستشفى الذي يتواجد فيه حوالي (10,000) نازح/ة. اقتحم جنود الاحتلال المستشفى وأزالوا اليافطة الخارجية ووضعوا على المستشفى علم (إسرائيل)، وبقيت في المستشفى.... فقدنا المواد الغذائية منذ 3 شهور، فلا يوجد طعام ولا يوجد شراب، ولا توجد معلبات، بسبب عدم وصول الشاحنات المحملة بالمساعدات إلى شمال قطاع غزة ونتيجة لذلك ارتفعت أسعار السلع الأساسية وأصبح سعر شوال الطحين (2,700) شيقل، ورطل السكر (100) شيقل... منذ 3 شهور لم أتذوق طعم الخبز وأعتمد في صناعة الأكل على النباتات البرية مثل الخبيزة... يصرخ أطفالي من شدة الجوع واضطر إلى الضغط والصراخ عليهم لقلة حيلتي وعدم مقدرتي على توفير الطعام لهم ... أصيب أطفالي بالالتهابات وتحول لون عيونهم إلى اللون الأصفر وهو من مؤشرات سوء التغذية، وهذا ما أكده الطبيب الذي أخبرني أن الأولاد يعانون من سوء التغذية وقلة الأكل وخاصة السكريات... بسبب ارتفاع سعر شوال الطحين اضطررت لشراء الذرة المطحونة والمخلوطة بالشعير وأعلاف الماشية لكنني اكتشفت بأنها لا تنفع لصناعة الخبز لأن مذاقها مر، ثم اشتريت العلف والكسبة والردة لكن الأولاد لا يستطيعون مضغها ويرفضوا أن يأكلوها لأنها صعبة الهضم ففيها شوائب وعيدان صغيرة تسبب جروح في الفم واللثة. خرج زوجي أمس للبحث عن الطعام ومكث طوال اليوم يبحث لكنه عاد دون نتيجة فالأسعار أكبر من مقدرتنا ولا نقوى عليها، حيث كنا نحصل على مخصصات الشؤون لكن وزارة التنمية الاجتماعية حجبت عنا المساعدة في وقت سابق.... وبسبب المجاعة قررت النزوح جنوباً، وخرجت اليوم الأربعاء 6 مارس/آذار 2024، في ساعات الصباح ووصلت إلى مفرق النابلسي ثم اتجهت جنوباً وقمت باجتياز الحاجز وشاهدت بالقرب من جنود الاحتلال أكياس من الطحين ومعلبات ملقاة على الأرض اضطر أطفالي لأخذ بعض هذه المعلبات والطحين ... لقد تحملنا القصف والملاحقة والخطر ورفضنا التهديدات بالإخلاء لكن الجوع دفعنا للنزوح...".
- نقص الحليب والمقويات المخصصة للأطفال
وضعت قوات الاحتلال الإسرائيلي قطاع الصحة، بما في ذلك من مستشفيات أو المراكز الصحية الحكومية وتلك التابعة لوكالة (الأونروا)، أو التابعة للمؤسسات الأهلية أو القطاع الخاص، في دائرة الاستهداف، ما حرم السيدات الحوامل والمواليد الجدد من أي رعاية بما يشمل العجز عن تقديم الغذاء والمقويات للمواليد الجدد.
وأفاد الدكتور حسام أبوصفية، مدير مستشفى كمال عدوان، لباحثينا بأن الأطباء يسجلون علامات ضعف وهزال شديد ناتجة عن سوء التغذية والجوع لدى جميع الحالات المرضية. ويضيف أبو صفية أن المستشفى يستقبل 3 أضعاف طاقته الاستيعابية بسبب معاناة السكان من أمراض يمكن علاجها عبر توفير طعام صحي يعزز المناعة في مواجهة انتشار العدوى في الأماكن المكتظة. وأكد أن جميع الحالات التي تعالج في المستشفى هي في وضع سيء وتظهر عليها علامات الشحوب والوهن بسبب فقدان التغذية السليمة، وهو ما يستدعي بقاءها لفترات أطول في المستشفى لتلقي العلاج، الأمر الذي يعتبر غاية في الصعوبة بالنظر إلى الإمكانيات المتاحة. ويرى أبو صفية أن هناك خصوصية لكل مريض بما يتعلق بالتغذية خصوصاً كبار السن والأطفال، ويعتبر فقدان أصناف غذائية مهمة كحليب الأطفال والدقيق والخضروات والفواكه بأنواعها عاملاً مساعداً في تدهور الأوضاع الصحية للسكان بشكل عام.
ويُقدر أبو صفية أن أقل طفل فقد نحو 5 كيلو جرام من وزنه على الأقل، نتيجة سوء التغذية الحاد، هذا غير معاناة السيدات الحوامل وكبار السن، والمرضعات على وجهٍ خاص، حيث لا يجدن الطعام للاستمرار في الرضاعة الطبيعية، مما جعل انقطاع الحليب لدى المرضعات أمر شائع في شمال قطاع غزة.
ويعتبر أبو صفية أن الأطفال الرضع ممن تقل أعمارهم عن 6 أشهر هم الأكثر عرضة للوفاة بالنظر إلى إمكانيات المستشفيات الحالية، ولا يمكن للأطباء اسعافهم من الهزال الشديد الذي يسببه الجوع، كون الأعراض تظهر عليهم بسرعة كبيرة وتتطور إلى الأسوأ خلال فترة قصيرة.
أفادت السيدة/ أمل أحمد إسماعيل أبو دان، البالغة من العمر (22) عاماً، - متزوجة، وتسكن في حي الشيخ رضوان بغزة، ولديها طفلة من مواليد شهر فبراير/2023- أن الحليب المخصص للرضاعة نفذ من الأسواق والنقص في الغذاء حرم طفلتها من الرضاعة الطبيعية.
"لجأت إلى المدارس والمستشفيات للبحث عن الأمان وخشية على حياتي وحياة طفلتي من شدة القصف، وبعد قيام قوات الاحتلال الإسرائيلي بشن العملية البرية واجتياح مدينة غزة، بدأت أشعر بالنقص في المواد الغذائية، وارتفعت أسعار السلع الأساسية التي بدأت تنفذ من الأسواق، مثل الطماطم والبطاطا والفواكه، فاضطررت إلى تقليص الطعام وتناول وجبة واحدة في اليوم بالرغم أنني مرضعة. ساءت الظروف مما دفعني للبحث عن نبتة الخبيزة التي تنمو في البرية لصناعة الطعام، ولم أتذوق الخبز، وبسبب النقص المتواصل في كمية الطعام وسوء التغذية المتواصل منذ ثلاثة أشهر أشعر بالتعب والهزل ولا أستطيع إرضاع طفلتي التي انخفض وزنها وظهرت عليها ملامح الهزل والتعب، فهي لا تنام في الليل وتصرخ باستمرار من قلة الطعام ولا أستطيع ارضاعها بشكل كاف، بسبب النقص في توفر الحليب الصناعي. ذهبت إلى الطبيب وأخبرته أن طفلتي تصرخ ولا تنام في الليل، وبعد الفحص أخبرني أن الصراخ بسبب قلة الطعام والرضاعة، ولهذا السبب وخشية على حياتي وحياة طفلتي اضطررت إلى النزوح جنوبا بحثاً عن الطعام وحليب الأطفال".
- علامات سوء التغذية تظهر على النازحين والنازحات
بالرغم من التدابير الاحترازية التي أقرتها محكمة العدل الدولية، استمر منع وصول إمدادات الغذاء والدواء، وفي محاولة من بعض الدول للإبقاء على حصار الشمال وتواصل المجاعة، بدأت عمليات إنزال جوي للغذاء على مناطق الشمال، في حين تتجنب هذه الدول الضغط على سلطات الاحتلال لفتح المعابر والسماح بمرور قوافل المساعدات إلى شمال غزة. بالإضافة إلى ذلك، قلصت سلطات الاحتلال من إجمالي عدد شاحنات المساعدات التي تدخل القطاع، في خطوة تشير إلى إصرارها على استخدام التجويع كسلاح.
أفادت السيدة/ أسماء ناصر احميدان أبو معلا (44) عاماً، - متزوجة ولديها (4) أبناء، وتسكن في منطقة أبو معلا بمحاذاة الطريق الساحلي غرب مخيم النصيرات- أن الناجين من شمال غزة خاصة الأطفال والنساء تبدوا عليهم علامات سوء التغذية والتعب، مثل: اصفرار الوجه، وبروز عظم الوجه، واليدين، والعيون غائرة للداخل، والوجه شاحب وشفاههم بيضاء اللون ومتشققة.
"خلال الفترة الماضية لجأ إلى منزلي ومنازل أقاربي القريبة من الجسر الساحلي، غرب مخيم النصيرات عدد كبير من النازحين القادمين من شمال غزة ويطلبون أن نعطيهم شيء من الطعام، ويلجأ أيضاً المحتجزين المفرج عنهم والذين يأمرهم جنود الاحتلال بالتوجه جنوباً، ويطلبون الملابس والطعام، وخلال شهر فبراير/شباط 2024، لاحظت ازدياد أعداد النازحين من العائلات والأسر من شمال قطاع غزة إلى الجنوب. حينها قررت إنشاء خيمة بمحاذاة الجسر وتحضير وجبات سريعة وتقديمها للنازحين وساعدني في ذلك فريق من الجيران والأقارب، وفي داخل الخيمة أقوم بطهي الخبز على الصاج ويقوم الشبان بتوفير المعلبات ... وكل شخص نازح يحصل على رغيف من الخبز فيه شيء من لحمة المعلبات، أو الحمص ... لقد أخبرني الكثير من النازحين أنهم لم يذوقوا طعم الخبز الأبيض منذ أشهر طويلة ومنهم من يبكي عندما يشاهد الخبز، وكانوا يأكلوا الخبز بلهفة ويخبرونني أن شوال الطحين في شمال غزة سعره غالي جداً، وبسبب المجاعة يضطرون إلى تناول الخبز المصنوع من الأعلاف والذرة لكن مذاقه مر وصعب الهضم، خاصة عند الأطفال، وفيه شوائب عالقة. كما لاحظت على النازحين علامات الإرهاق والتعب والهزال وتبدو عليهم مظاهر الجوع وسوء التغذية مثل: اصفرار الوجه، وبروز عظم الوجه، واليدين، والعيون غائرة للداخل خاصة الأطفال والنساء، والوجه شاحب وشفاههم بيضاء اللون ومتشققة ... بعد إطلاق مبادرتي قامت مؤسسة المطبخ المركزي العالمي (World Central Kitchen) بإنشاء نقطة بجانب الطريق الساحلي غرب مخيم النصيرات وتقدم فيها وجبات سريعة للنازحين. وقامت مؤسسة المطبخ المركزي العالمي بمساندة مبادرتنا من خلال توفير شوالات الطحين والمياه وتوزيع الوجبات الجاهزة على فريق العمل، كما قام أشخاص آخرين بدعمنا بشوالات الطحين".
الخاتمة والتوصيات:
يظهر التقرير مدى خطورة الأوضاع الإنسانية شمال قطاع غزة، وأن قوات الاحتلال تتعمد خلق ظروف قاهرة تستحيل معها الحياة والبقاء، من خلال أعمال القتل اليومية والهجمات العشوائية والتسبب في انتشار المجاعة، التي تتوسع يوم بعد يوم في شمال قطاع غزة، وتتسبب في وفاة المدنيين الأبرياء، خاصة الأطفال وكبار السن، حيث بلغ عدد الوفيات بسبب الجوع والجفاف (27) حتى يوم الثلاثاء، 12 مارس/آذار 2024. وتصر قوات الاحتلال على منع وصول الشاحنات المحملة بالمساعدات، وتفتح نيران أسلحتها بشكل مباشر صوب السكان المدنيين عند محاولتهم البحث عن الطعام وتتسبب في قتلهم. ولعل الحوادث المتكررة على دوار النابلسي ودوار الكويت في مدينة غزة، والتي تتمثل في استهداف قوات الاحتلال الجياع وهم في انتظار المساعدات وقتل العشرات منهم، من الشواهد على تحدي إسرائيل، الدولة القائمة بالاحتلال، القانون الدولي الإنساني وقرار محكمة العدل الدولية، القاضي باتخاذ مجموعة من التدابير لمنع الإبادة الجماعية والتي من بينها اتخاذ تدابير فورية وفعالة لتوفير الخدمات الأساسية وتقديم المساعدة الإنسانية والتصدي للظروف السيئة التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة.
كما تترافق سياسة التجويع مع استهداف وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، والتي تعد أكبر مؤسسة اغاثية وتحظى بمصداقية عالية في صفوف الفلسطينيين، حيث تواصل سلطات الاحتلال تقديم معلومات مضللة وتحريضية تهدف من خلالها إلى تقويض عملها وتفكيكها. ونتيجة لحملاتها التحريضية، أوقفت (16) دولة تمويلها للأونروا بشكل مؤقت وبلغ مجموع التمويل المعلق (450) مليون دولار. وبناءً عليه، تطالب المؤسسات الثلاث المجتمع الدولي:
- بالقيام بواجبه والتدخل العاجل لوقف سياسة التجويع، وفرض وقف لإطلاق النار في قطاع غزة وضمان انسحاب قوات الاحتلال، وإنهاء حصارها المفروض على قطاع غزة ولاسيما شماله، والتماس السبل كافة لضمان احترام قوات الاحتلال للتدابير الاحترازية التي أقرتها محكمة العدل الدولية.
- ضمان تدفق المساعدات الغذائية والدوائية والوقود بكافة أنواعه دون أي عوائق وبكميات كافية، ولاسيما الوقود اللازم لإعادة تشغيل محطة توليد كهرباء غزة بحيث تسمح بترميم وإعادة تشغيل المستشفيات وآبار المياه ومحطات التحلية.
- السماح بمرور الشاحنات من جنوب القطاع إلى الشمال بحرية وبأعداد كافية وضمان وصول المساعدات إلى السكان وخاصة المواد الغذائية وحليب الأطفال، والوقود اللازم لتشغيل آبار المياه ومضخات الصرف الصحي.
- الضغط على إسرائيل لوقف حملاتها المضللة ضد وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الاونروا) وافساح المجال أمامها لمزاولة أنشطتها الاغاثية دون قيود، واستئناف الدعم المقدم لها.
كما أننا نطالب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بإصدار أوامر اعتقال فورية بحق المسؤولين الإسرائيليين الذين أمروا فرض حصار كامل على قطاع غزة واستخدموا سياسة التجويع ضد السكان الفلسطينيين.
وتؤكد المؤسسات الثلاث أن محنة غزة تشكل تحدياً واضحاً للنظام الدولي والقانون الدولي وتهدد بتقويضه بعد أن بدا واضحاً بأنه نظام يتحكم فيه الأقوياء ولا يمت بصلة للمساواة بين الأمم وحفظ الأمن والسلم الدوليين، وخاصة عجز مجلس الأمن القيام بدوره.
[1] تقرير دولي: المجاعة وشيكة في شمال غزة وجميع السكان يواجهون أزمة جوع كارثية. 18 آذار/مارس 2024 https://news.un.org/ar/story/2024/03/1129331?fbclid=IwAR25_eoYzMFJP3C6Z0Q-eLc5n4YX653hpEFe58W6MEZ-g_ZghVRT9jgx6X0