تدين مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية بأشد العبارات إطلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي الأعيرة النارية بكثافة ودون أي مبرر أو ضرورة تجاه آلاف المدنيين الفلسطينيين خلال محاولتهم استلام مساعدات أوصلتها شاحنات عبر حاجز عسكري للاحتلال على طريق الرشيد جنوب غربي مدينة غزة، مما أدى إلى استشهاد وإصابة المئات من المدنيين. وترى مؤسساتنا بأن استمرار الاحتلال في ارتكاب هذه الجرائم المروعة هو نتيجة لسياسة الإفلات من العقاب التي تحظى بها إسرائيل نتيجة الحصانة التي توفرها لها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية.
وتظهر متابعة باحثينا، أنه في حوالي الساعة 4:30 فجر اليوم الخميس 29 فبراير/شباط الجاري، أطلقت قوات الاحتلال الإسرائيلي عبر دباباتها وقناصتها المتمركزة جنوب غرب غزة، النار بكثافة تجاه آلاف المدنيين الذين كانوا يتجمعون قرب دوار النابلسي على شارع الرشيد لساعات قبلها بانتظار وصول شاحنات تحمل المساعدات الإنسانية من طحين ومعلبات. وتزامن إطلاق النار مع قدوم الشاحنات التي تحمل المساعدات ووصول العشرات إليها واعتلائها لأخذ الطحين أو طرود المعلبات.
أسفر إطلاق النار الكثيف الذي استمر لما يقارب ساعة ونصف عن استشهاد 104 من مدنيين وإصابة 760 آخرين بجروح (وفق حصيلة وزارة الصحة في غزة)، وكان المشهد قاسيا، حيث سقط الضحايا على الشاحنات أو خلال حملهم أكياس الطحين والطرود التي جازفوا بأرواحهم للحصول عليها لإطعام أفراد أسرهم الذين يعانون من حالة تجويع غير مسبوقة مع دخول العدوان الإسرائيلي يومه الـ 146 على التوالي.
وتسبب إطلاق النار المستمر لاحقًا في إيقاع المزيد من الضحايا وإعاقة عمليات الإسعاف والإنقاذ التي حاول الناجون تقديمها للضحايا.
وأفاد السيد محمود إبراهيم عبد السلام عبيد، 30 عاما لباحثينا: "من شدة الجوع توجهت لأول مرة لأخذ المساعدات، وهذه المرة الأولى. لم أشاهد أحد اقترب من الدبابة، التي كانت تتمركز قرب شارع الرشيد، أخذت من الشاحنة الأولى، وعندما استدرت أصبت بعيار ناري في ظهري وآخر في يدي في إطلاق نار من الدبابة".
كما أفاد السيد عطية عبد الفتاح لافي، ٣٤ عامًا، لباحثينا: "دخلت الشاحنة الأولى والثانية والناس اقتربت منها وبدأت بأخذ المساعدات، ثم قدمت الشاحنة الثالثة والرابعة وعندها حدث إطلاق النار من قوات الاحتلال. تمكنت من أخذ حصة من المساعدات وبدأت بالعودة لمنزلي، عندها أصبت بعيار ناري في ظهري وأنا على بعد حوالي 700 متر من تمركز الدبابات الإسرائيلية".
تؤكد إفادات شهود العيان أن قوات الاحتلال ودباباته أطلقت النار بكثافة تجاه المدنيين، وتسببت بإيقاع هذا العدد الكبير من الضحايا، ما يدحض مزاعم الاحتلال الذي حاول ربط الأمر بحالة التزاحم والتدافع خلال محاولة الحصول على المساعدات. تؤكد متابعاتنا وإفادات شهود العيان أن إطلاق النار من قوات الاحتلال وتدخلها هو الذي تسبب بحالة التدافع الشديد خلال محاولة الهرب من الرصاص الذي أطلقته تلك القوات.
وهذا الحادث ليس الأول من نوعه، ولكنه الأكثر قسوة من حيث ضخامة أعداد الضحايا نتيجة تعمد قوات الاحتلال استهداف طالبي المساعدات الذين بلغوا مستويات قياسية من الجوع، وقتلتهم بشكل جماعي ودم بارد، حيث لم تكتف قوات الاحتلال الإسرائيلي بتجويع السكان المدنيين/ات الفلسطينيين/ات في شمال وادي غزة، بل أقدمت أيضاً على قتلهم خلال محاولتهم الحصول على القليل من المساعدات التي نادرا ما تصلهم.
وسبق أن وثقت طواقمنا إطلاق قوات الاحتلال النار والقذائف عمدًا على المدنيين/ات خلال انتظارهم شاحنات المساعدات في إصرار من إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، على حرمان السكان المحاصرين تحت القصف والتدمير من الحصول على الحد الأدنى من المواد الغذائية التي تبقيهم على قيد الحياة.
وفي 25 شباط/فبراير، استشهد ما لا يقل عن 10 مدنيين في حادثين أطلقت قوات الاحتلال خلالها النار تجاههم أثناء تجمعهم بالقرب من دوار النابلسي، توقعًا لوصول المساعدات.
وفي 27 شباط/فبراير، صرح الفريق القطري الإنساني: "إن المنظمات الشريكة في مجال العمل الإنساني لم يتمكنوا من الوصول بأمان إلى شمال غزة ومناطق في جنوب غزة على نحو متزايد، حيث تعرضت قوافل المساعدات لإطلاق النار وتم منعها بشكل منهجي من الوصول إلى الأشخاص المحتاجين".
ووفق متابعة طواقمنا، فإن الآلاف يخاطرون ويجازفون يوميًّا بحياتهم، على أمل الحصول على الطحين أو أي مواد غذائية، حيث يصلون إلى أقرب مكان من الحواجز الإسرائيلية التي يحتمل أن تصل عبرها شاحنات تحمل المساعدات، وهناك يتعرضون لإطلاق النار المباشر من قناصة الاحتلال وأحيانا القصف بالقذائف من الدبابات الإسرائيلية، دون أي مبرر أو ضرورة؛ إذ تعلم قوات الاحتلال أن هؤلاء يتجمعون وينتظرون لساعات طويلة ليجدوا ما يقيتون به أفراد أسرهم.
وما يدفع هؤلاء السكان للمخاطرة هو الجوع، الذي بلغ ذروته وتفشى بشكل خطير، على مدار الأشهر الماضية، حيث نفدت جميع المواد الغذائية ولم يعد هناك أي شيء يقتات منه السكان الذين فقد أغلبيتهم عدة كيلوجرامات من أوزانهم.
وتشير مؤسساتنا إلى ما ذكره المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني بأنه "لا يوجد هنالك ما يكفي من "علف الحيوانات" ليأكله الناس في شمال غزة. في حين أن "مجاعة من صنع الإنسان" تلوح في الأفق يتم منع المساعدات من الوصول للشمال. بدل أن تزداد، قل عدد الشاحنات الداخلة إلى غزة للنصف خلال شهر شباط. يجب وقف إطلاق النار لدواعي إنسانية".
ويأتي هذا التطور الخطير، في وقت تزايدت حالات الوفاة في صفوف الأطفال الناجمة عن سوء التغذية والجفاف في شمال غزة، حيث أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية بغزة وفاة 6 أطفال، 4 منهم في مستشفى كمال عدوان و2 في مستشفى الشفاء، نتيجة الجفاف وسوء التغذية وسط تحذيرات بوجود أطفال آخرين في حالة الخطر وعرضة للموت للسبب ذاته.
تجدد مؤسساتنا، المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، مركز الميزان، ومؤسسة الحق، تحذيرها من ترك نحو نصف مليون فلسطيني/ة فريسة للموت جوعاً وعطشاً في محافظتي غزة وشمال غزة، بعدما انقطعت عنهم المساعدات بشكل شبه كامل منذ أسابيع، وشحت جميع الأصناف الغذائية والدوائية الأساسية وخاصة الطحين، نتيجة قيود الاحتلال واستمرار العدوان الإسرائيلي لليوم الـ 146 على التوالي.
وترى مؤسساتنا أن استمرار دولة الاحتلال في سياسة العقاب الجماعي المتمثلة في تجويع وتعطيش سكان قطاع غزة، وهو ما تجرمه جميع الشرائع والقوانين الدولية، يأتي في سياق استكمال أهدافها بتهجير سكان شمال قطاع غزة ودفعهم إلى النزوح جنوباً، والضرب بعرض الحائط القرارات التمهيدية لمحكمة العدل الدولية التي تلزمها بالامتثال الكامل بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية بما يضمن سلامة وأمن السكان الفلسطينيين/ات، وبتحري التدابير الاحترازية لعدم تنفيذ إبادة جماعية بحق سكان قطاع غزة، وهو ما تترجمه إسرائيل بمزيد من القيود والتضييق على دخول المساعدات الغذائية ما يخلق أزمة جوع وعطش غير مسبوقة في شمال قطاع غزة.
وفي هذا الصدد، تحذر مؤسساتنا من استمرار قوات الاحتلال في إصدار أوامر التهجير، بما في ذلك الاتصال على السكان والطلب منهم التوجه إلى منطقة المواصي في الجنوب، وإبلاغهم أن بإمكانهم هناك الحصول على المساعدات.
وتحذر مؤسساتنا بأن انعدام الأمن الغذائي الذي اشتدت وتيرته بشكل حاد جدًا في شمال وادي غزة، يهدد حياة كبار السن والمرضى والأطفال بالموت جوعاً وعطشاً، كما ويهدد بمعاناة صحية ستؤدي إلى عواقب خطيرة تستمر لأجيال مقبلة.
ووفقًا لتقرير صدر عن منظمة هيلب إيج (Help Age)؛ فإن ما يقارب 111,500 من كبار السن في غزة هم من بين الأشخاص الأكثر عرضة للجوع والجفاف والأمراض والموت.
وفي ضوء ذلك، تُجدد مؤسساتنا مطالبة المجتمع الدولي للعمل على وقف جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال بحق 2.3 مليون فلسطيني/ة في قطاع غزة، من خلال سياسة العقاب الجماعي المتمثلة بالتجويع والتعطيش ودفعهم إلى النزوح بعيداً عن أماكن سكناهم في ظروف تفتقر لأبسط حقوق الانسان ومن ثم استهدافهم في مكان نزوحهم وقتلهم. وعليه فإننا:
- نطالب المجتمع الدولي بالتحرك الجاد والفوري لإجبار دولة الاحتلال الإسرائيلي على وقف العدوان، والعمل بقرارات محكمة العدل الدولة الملزمة بمنع ارتكاب إبادة جماعية، ودفعها إلى اتخاذ تدابير عملية تحفظ أرواح المدنيين والمدنيات في قطاع غزة، والاقلاع عن استخدام سياسة العقاب الجماعي التي تجرمه جميع القوانين الدولية والإنسانية.
- ندعو الأطراف السامية المتعاقدة على إجبار دولة إسرائيل، بصفتها القوة القائمة بالاحتلال، بالوفاء بكامل التزاماتها وفق المواد 55، 56 من اتفاقية جنيف الرابعة، ويشمل ذلك وضع آليات مناسبة لإيصال المساعدات الإنسانية بما يضمن حماية المدنيين/ات والحفاظ على كرامتهم، والضغط من أجل توفير المزيد من الممرات الإنسانية لتسهيل عمل المؤسسات الإنسانية الدولية في إيصال الكميات المطلوبة من الأغذية والأدوية للسكان في شمال قطاع غزة.
- نطالب المجتمع الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة كافة إلى بذل المزيد من الجهد في توفير المساعدات الغذائية والدوائية، وكذلك المياه الصالحة للشرب في ظل تعطل أنظمة الخدمات الحكومية والبلدية مع استمرار العدوان الحربي على قطاع غزة للشهر الخامس على التوالي.