في ضوء ذلك، أعلن الرئيس محمود عباس عن سلسلة إجراءات جرى تنفيذها في قطاع غزة منذ نيسان 2017؛ ومن أبرزها قيام وزارة المالية بخصم ما نسبته 30- 35 % من رواتب الموظفين/ات في قطاع غزة كافة (نحو 62 ألف موظف) ووقف بعض الامتيازات المالية الوظيفية مثل العلاوة الإشرافية للموظفين/ات وبدل المواصلات والعلاوة الاجتماعية، وتقليص التحويلات الطبية الخارجية المخصصة لمرضى قطاع غزة بنسبة كبيرة وصلت إلى حوالي 80 % من حجم التحويلات الخارجية المعتادة لقطاع غزة وبخاصة الحالات الحرجة كمرضى السرطان والأمراض الخطيرة الأخرى، ووقف توريد ثمن الكهرباء لمحطة توليد الكهرباء في قطاع غزة ما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي فترات طويلة عن السكان، في ظل حصار يُعاني منه القطاع منذ سنوات أدى إلى نتائج كارثية انتهكت الكرامة الإنسانية ومختلف الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لسكان قطاع غزة.
الإجراءات التي اتخذها الرئيس والحكومة الفلسطينية، لم يصدر فيها قرار بقانون أو مرسوم رئاسي أو قرار حكومي، وقد لاقت اعتراضات واسعة من قبل مؤسسات المجتمع المدني لانتهاكها أحكام القانون الأساسي الفلسطيني المعدل (الدستور المؤقت) وبخاصة المادة التاسعة التي تحظر التمييز بين الفلسطينيين، حيث رأت مؤسسة الحق في العديد من البيانات والأوراق الصادرة عنها أن تلك الإجراءات انطوت على تمييز على أساس جغرافي، كونها استهدفت فقط الموظفين/ات في قطاع غزة والموظفين من قطاع غزة المقيمين في الضفة الغربية، كما وانتهكت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بموجب الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها دولة فلسطين.
في شهر تموز 2017 جرى إحالة (6145) موظف/ة مدني من قطاع غزة على التقاعد القسري المبكر، وفي شهر تشرين الثاني 2017 جرى إحالة نحو (7000) موظف/ة عسكري من قطاع غزة على التقاعد القسري المبكر، علماً أن عدد الموظفين/ات العموميين المدنيين والعسكريين التابعين للسلطة الفلسطينية، أي الذين يتلقون رواتب منها بما يشمل قطاع غزة في ذلك الوقت نحو (156 ألف) موظف/ة منهم نحو (94 ألف) موظف/ة في الضفة الغربية، ونحو (62 ألف) موظف/ة في قطاع غزة (26 ألف) منهم مدنيين و (36 ألف) عسكريين.
بتاريخ 9 نيسان 2018 أحالت وزارة المالية رواتب موظفي الضفة الغربية المدنيين والعسكريين إلى حساباتهم في البنوك، وفي المقابل لم يتم إحالة رواتب موظفي قطاع غزة التابعين للحكومة الفلسطينية إلى حساباتهم في البنوك، وقد صدرت عدة تصريحات رسمية تشير إلى وجود "خلل فني" في عملية الإحالة المالية، إلاّ أن هذه الحجة سرعان ما تلاشت مع استمرار وقف رواتب كافة الموظفين/ات في قطاع غزة، ولم يصدر بعد ذلك تصريحات رسمية توضح سبب استمرار وقف رواتب كافة الموظفين/ات في قطاع غزة.
بتاريخ 2 أيار 2018 أحالت وزارة المالية رواتب الموظفين/ات العموميين المدنيين والعسكريين في الضفة الغربية إلى حساباتهم في البنوك، وبذات التاريخ أحالت 50 % فقط من رواتب الموظفين/ات في قطاع غزة إلى البنوك، وفيما يتعلق برواتب موظفي قطاع غزة الخاصة بشهر نيسان 2018 لم تنزل إلى حساباتهم البنكية لغاية الآن.
تجدر الإشارة، إلى أن المتابعات الميدانية لمؤسسة الحق تشير إلى أن هناك مؤشرات تدلل على تذمر البنوك من الإجراءات التي اتخذت بحق الموظفين/ات في قطاع غزة، وبخاصة أن نسبة الموظفين/ات المقترضين من البنوك تصل إلى حوالي 78 %، وبالتالي فإن البنوك تأثرت بشكل سلبي من وقف رواتب موظفي قطاع غزة بالكامل مع عدم إمكانية تحصيل أقساط وفوائد القروض والعمولات البنكية وتأثيرها على العمليات المصرفية.
تشير المتابعات الميدانية "للحق" بعد إعلان وزارة المالية الفلسطينية عن إحالة ما نسبته 50% من إجمالي الراتب الأصلي للموظفين/ات في قطاع غزة إلى حساباتهم في البنوك، بأن ما جرى إحالته عملياً من رواتب موظفي قطاع غزة هو 50 % من أصل ما تبقى من رواتب الموظفين/ات بعد الخصم الذي جرى ولا زال مستمراً على رواتب الموظفين/ات في قطاع غزة منذ شهر نيسان 2017 ولغاية الآن ونسبته 30- 35 % من إجمالي الراتب.
وفي المقابل، تمت المصادقة على اعتماد (5598) وظيفة جديدة جرى اعتمادها رسمياً في الموازنة العامة لدولة فلسطين للسنة المالية 2018، علماً أن وزارة المالية والحكومة الفلسطينية لا زالت ترفض عرض الموازنة العامة للنقاش المجتمعي قبل إقرارها، في ظل استمرار غياب المجلس التشريعي منذ سنوات، ورغم المطالبات العديدة لمؤسسات المجتمع المدني بضرورة مناقشة الموازنة قبل إقرارها إلاّ أن وزارة المالية والحكومة لا زالت تتجاهل مطالب المجتمع المدني على هذا الصعيد، ورغم أن إحدى سيناريوهات الموازنة العامة 2018 أشارت إلى إمكانية دمج(20 ألف موظف) في قطاع غزة تحت عنوان "موازنة إضافية للمحافظات الجنوبية" إلاّ أن الواقع العملي على الأرض يشير إلى أن التعيينات محصورة فقط في الضفة الغربية دون قطاع غزة، علماً أن التعيينات في قطاع غزة في الوظيفة العمومية توقفت منذ عام 2007 وأن معدل أعمار موظفي قطاع غزة فوق 40 سنة.
مع الإشارة أيضاً، في جانب غياب الشفافية، إلى أن هنالك العديد من القرارات بقوانين التي جرى ويجري مناقشتها في مجلس الوزراء، وإقرارها من السيد الرئيس، ونشرها في الجريدة الرسمية (الوقائع الفلسطينية)، بطريقة سرية ودون نقاش مجتمعي، رغم أهميتها وتأثيرها على حالة الحقوق والحريات؛ مثل قرار بقانون الجرائم الإلكترونية وتعديلات قرار بقانون المحكمة الدستورية العليا وقرار بقانون محكمة الجنايات الكبرى.
تجدر الإشارة، أنه ما زال مفهوم "التمكين" الذي أكد عليه السيد الرئيس ودولة رئيس الوزراء مراراً يثير إشكاليات كبيرة بين القيادة الفلسطينية وحركة حماس منذ الاتفاق الذي جرى بينهما في تشرين الأول 2017.
موقف القانون الفلسطيني
تابعت مؤسسة الحق ومؤسسات المجتمع المدني الإجراءات التي اتخذتها دولة فلسطين في قطاع غزة، ومن بينها رواتب الموظفين/ات، من خلال العديد من البيانات وأوراق الموقف واللقاءات مع الجهات الرسمية وحملات الضغط والمناصرة من منظور حقوقي، وترى "الحق" أن تلك الإجراءات افتقرت إلى الشفافية والوضوح أولاً حيث لم يصدر أي قرار بقانون أو مرسوم أو قرار رئاسي أو نظام أو قرار حكومي يبين أسانيدها القانونية ومبرراتها.
إن الإجراءات التي استهدفت الموظفين/ات في قطاع غزة، والموظفين/ات من غزة المقيمين في الضفة الغربية، تنطوي على نوع من التمييز على أساس جغرافي، ينتهك أحكام المادة التاسعة من القانون الأساسي الفلسطيني المعدل التي أكدت بالنص الصريح على أن الفلسطينيين متساوون أمام القانون ولا تمييز بينهم.
وتلك الإجراءات تخالف قانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية رقم (7) لسنة 1998 وتعديلاته والذي لا يُجيز لوزير المالية ولا للحكومة عدم تحويل رواتب موظفي قطاع غزة، كون هذا الإجراء يشكل مخالفة تطال مرحلة تنفيذ الموازنة العامة، ولا يوجد لها أساس قانوني في القانون المذكور. كما أن هذا الإجراء يشكل مخالفة لأحكام قانون الخدمة المدنية رقم (4) لسنة 1998 وتعديلاته ولوائحه التنفيذية لعدم وجود أساس قانوني في القانون المذكور للخصم من رواتب الموظفين في قطاع غزة بنسبة تتراوح بين 30 – 35 % التي لا زالت مستمرة.
إن قرار بقانون التقاعد المبكر للموظفين المدنيين رقم (17) لسنة 2017، وقرار بقانون التقاعد المبكر لقوى الأمن الفلسطينية رقم (9) لسنة 2017، اللذان صدرا عن السيد الرئيس، في ظل استمرار غياب المجلس التشريعي، بالاستناد إلى المادة (43) من القانون الأساسي الفلسطيني، لم يخضعا للنقاش المجتمعي، وقد لاقى كل منهما اعتراضات من قبل مؤسسة الحق ومؤسسات المجتمع المدني، كونهما مخالفَين لأجندة السياسات الوطنية التي أقرتها الحكومة للأعوام 2017 -2022 التي حملت شعار (المواطن أولاً) في ظل السرية التي جرى التعامل فيها معهما؛ ومع القرارات بقوانين التي تناقشها الحكومة ويقرها الرئيس وتُنشر في الجريدة الرسمية.
كما أن تلك القرارات بقوانين تخالف الشروط الدستورية الواردة في المادة (43) من القانون الأساسي التي استند إليها الرئيس؛ لأن النص الدستوري المذكور يشترط وجود "حالة ضرورة لا تحتمل التأخير" لصحتها، وهي غير متوفرة في تلك الأحوال، علاوة على عدم وجود أية أسس ومعايير موضوعية وقابلة للقياس في هذين القرارين بقانون اللذين تم الاستناد لهما في إحالة آلاف الموظفين/ات في قطاع غزة على التقاعد القسري المبكر.
تنص المادة (2) من قرار بقانون التقاعد المبكر للموظفين المدنيين لسنة 2017 على الآتي "على الرغم مما ورد في أي تشريع آخر، يجوز لمجلس الوزراء إحالة أي موظف إلى التقاعد المبكر بتنسيب من رئيس دائرته الحكومية". فيما تنص المادة (4) من قرار بقانون التقاعد المبكر لقوى الأمن الفلسطينية لسنة 2017 على الآتي "للقائد الأعلى لقوى الأمن الفلسطينية بتنسيب من لجنة الضباط بناءً على توصية من قائد الجهاز أو رئيس الجهاز أو رئيس الهيئة أو رئيس المديرية الأمنية أو العسكرية أو الوزير المختص أن يحيل على التقاعد المبكر أي عسكري تنطبق عليه أحكام هذا القرار بقانون". وبذلك تغيب الأسس والمعايير في عملية الإحالة على التقاعد المبكر.
تجدر الإشارة، إلى أن قرار بقانون التقاعد المبكر للموظفين المدنيين لسنة 2017 وقرار بقانون التقاعد المبكر لقوى الأمن الفلسطينية لسنة 2017 جرى استخدامهما مؤخراً منذ شباط 2018 لإحالة نحو (200) موظف مدني في الضفة الغربية على التقاعد القسري المبكر، وإحالة أعداد غير محددة ما زالت "الحق" تعمل عليها من الموظفين العسكريين وبخاصة من جهاز الأمن الوطني وجهاز الشرطة والدفاع المدني على التقاعد المبكر.
موقف القانون الدولي
قطاع غزة جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين. وقطاع غزة كما الضفة الغربية بما يشمل القدس الشرقية أرضٌ محتلة، وفقاً للقانون الدولي. وينطبق عليها القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
حصلت دولة فلسطين، على مكانة دولة غير عضو بصفة مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012، وانضمت للعديد من الاتفاقيات الدولية بدون تحفظات، وبخاصة الإتفاقيات الأساسية لحقوق الإنسان؛ ومن بينها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، واتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية الأشخاص ذوي الإعاقة. وقطعت دولة فلسطين على نفسها تعهداً بإنفاذ تلك الاتفاقيات الدولية على أرض دولة فلسطين؛ على مستوى تشريعاتها، وعلى مستوى سياساتها العامة، وفي التطبيق العملي على الأرض، بدون تحفظات. وبالنتيجة، فإن الإجراءات التي جرى اتخاذها في قطاع غزة، علاوة على انتهاكها للقانون الفلسطيني، فإنها تنتهك الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها دولة فلسطين وتعهدت بإنفاذها بدون تحفظات.
والقول بغير ذلك، أياً كانت دواعيه ومبرراته، يؤدي بنهاية المطاف إلى نتيجة هي: أن القانون الدولي والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي انضمت إليها دولة فلسطين تطبق فقط في الضفة الغربية دون قطاع غزة!
نحن أمام كارثة إنسانية خطيرة، مستمرة في قطاع غزة، وعلى كافة الأصعدة، تتحمل إسرائيل السلطة القائمة بالاحتلال المسؤولية الأساسية عنها باستمرار احتلالها الإستعماري طويل الأمد والحصار الذي تفرضه على قطاع غزة منذ سنوات. ينبغي على الدول الأطراف السامية المتعاقدة أن تتحمل مسؤولياتها تجاه قطاع غزة والضفة الغربية بموجب اتفاقية جنيف الرابعة وقد تعهدت في مادتها الأولى باحترامها وكفالة احترامها في جميع الأحوال.
ما يجري في قطاع غزة، امتهانٌ خطيرٌ للكرامة الإنسانية، يطال أكثر من (2 مليون) مواطن فلسطيني؛ بينهم نساء وأطفال وكبار السن، وعائلات ما زالت تعيش في العراء بلا مأوى. إن الإجراءات التي اتخذتها دولة فلسطين في قطاع غزة بمجالات عديدة، من بينها قطع رواتب الموظفين/ات وهو مصدر دخل أساسي ووحيد لآلاف الأسر في القطاع، إلى جانب المساعدات الإغاثية التي تقدمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) التي باتت تعاني من تقليص كبير في ميزانيتها؛ تؤدي إلى استمرار تفاقم الأوضاع الإنسانية المأساوية في غزة، ومن شأنها أن تؤدي للمزيد من ارتفاع مستويات الجريمة والعنف الداخلي، المرتفعة أساساً، نتيجة تفشي ظاهرة الفقر والبطالة والعوز وفقدان الأمن المعيشي وتدهور الأوضاع الاجتماعية والصحية وتدمير الدورة الاقتصادية في قطاع غزة، الذي لا زال تحت احتلال استعماري طويل الأمد ويعاني من ويلات الحصار، وقد تؤدي لانفجار الوضع برمته.