ترحب مؤسسات حقوق الإٍنسان الفلسطينية، الحق والميزان والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، بالقرار التاريخي لمحكمة العدل الدولية الصادر اليوم في قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، والقاضي بفرض تدابير مؤقتة عليها؛ لمنعها اقتراف جرائم إبادة جماعية في غزة، حيث رأت المحكمة أن هناك أساس معقول للاعتقاد بأن إسرائيل ترتكب خلال حربها على غزة جرائم إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني.
ومن خلال توجيهها أوامر لإسرائيل لاتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها لوقف فوري لارتكاب أعمال إبادة جماعية، أقرت المحكمة بضرورة اتخاذ ما بوسعها من إجراءات فورية لحماية الشعب الفلسطيني في غزة ووقف فوري للقتل المستمر للفلسطينيين والفلسطينيات في غزة بصفتهم جماعة. لم يقتصر القرار على إلزام إسرائيل بوقف جميع أفعال الإبادة الجماعية في غزة على الفور، بل تم أيضًا إلزامها بتقديم تقرير للمحكمة في غضون شهر بخصوص تنفيذ التدابير المطلوبة. وبناءً على طبيعة الأعمال العسكرية لإسرائيل في غزة والتصريحات " اللا إنسانية" التي أدلى بها مسؤولو الحكومة الإسرائيلية، وجدت المحكمة أن أفعال إسرائيل في غزة قد تصل إلى جريمة إبادة جماعية.
يعتبر قرار المحكمة بفرض تدابير مؤقتة عاجلة على اسرائيل قرارا ملزما قانونا. وتعتبر هذه المرة الأولى التي يتم فيها مساءلة إسرائيل عن إمكانية ارتكاب جريمة إبادة جماعية في قضية خلافية ويتم فيها فرض تدابير قانونية ملزمة. يحمل هذا القرار مطالبة ضمنية بوقف إطلاق النار، حيث لا يمكن تنفيذه دون وقف كامل للأعمال العدائية. وبشكل خاص، على ضوء تصريحات الأمم المتحدة العديدة بأنه لا يمكن تقديم المساعدة الإنسانية الفعّالة إلا مع وقف كامل للأعمال العدائية، فإن مطالبة محكمة العدل الدولية بنفس الصياغة هي في الواقع دعوة إلى وقف إطلاق النار. وبالمثل، نظرًا لطبيعة عملها العسكري، يتطلب من إسرائيل الامتثال للأوامر باتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها لمنع ارتكاب جميع الإفعال التي تصنف على أنها إبادة جماعية ضمن مفهوم الاتفاقية، وضمان عدم ارتكاب قواتها العسكرية أي أفعال إبادة جماعية، وهذا يتطلب وقفًا لجميع الأعمال العدائية. ولا يمكن تنفيذ أمر المحكمة إلا من خلال وقف لإطلاق النار.
وجدت المحكمة أن الشروط التي يقتضيها نظامها الأساسي لتحديد التدابير الواجب تنفيذها قد استوفيت. وبناءً على ذلك، أصدرت المحكمة قرارًا ينص بأن على إسرائيل، وفقًا لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وفيما يتعلق بالفلسطينيين/ات في غزة، ما يلي:
1. اتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها لمنع ارتكاب جميع أفعال الإبادة الجماعية الواردة في المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية.
2. اتخاذ إجراءات فورية لضمان عدم ارتكاب قواتها العسكرية أي من أفعال الإبادة الجماعية.
3. منع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.
4. اتخاذ تدابير فورية وفعّالة لتوفير الخدمات الأساسية الملحة وتقديم المساعدة الإنسانية بشكل عاجل للتصدي للظروف السيئة التي يواجهها الفلسطينيون/ات في غزة.
5. اتخاذ تدابير فعّالة لمنع تدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتعلقة بادعاءات أفعال ذات علاقة بالجريمة ضمن مفهوم المادة الثانية والثالثة من اتفاقية الإبادة الجماعية.
6. تقديم تقرير إلى المحكمة حول جميع التدابير التي تم اتخاذها لتنفيذ هذا القرار في غضون شهر واحد من 26 يناير 2024.
ويشير الإصدار الفوري لمثل التدابير الطارئة هذه من جانب محكمة العدل الدولية، الذي تم في غضون شهر واحد من تقديم دولة جنوب أفريقيا لطلبها وبعد أسبوعين فقط من جلسات الاستماع الشفهية، إلى اعتراف قوي بالضرورة الملحة المحيطة بالفظائع الجماعية المستمرة التي يواجهها الفلسطينيون/ات في غزة. كما أكدت المحكمة أن حملة الإبادة التي شنتها إسرائيل منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 قد أسفرت عن استشهاد ما لا يقل عن 25,700 فلسطيني/ة وإصابة 63,740 آخرين. كما أُجبر ما لا يقل عن 1.7 مليون فلسطيني/ة على النزوح القسري واللجوء إلى مراكز إيواء ممتلئة ومكدسة بالنازحين/ات. بالإضافة إلى ذلك، تركت السياسات التي فرضتها إسرائيل بشكل متعمد على قطاع غزة حوالي 2.3 مليون فلسطيني/ة بدون إمكانية الوصول إلى الإمدادات الحيوية، في ظل نظام صحي وغذائي منهار، ما جعلهم عرضة لانتشار الأمراض والإصابات الخطيرة، والمجاعة.
وتماشياً مع المادة 41 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية والممارسة القانونية الدولية الراسخة، تذكر مؤسساتنا المجتمع الدولي بأن تنفيذ التدابير الطارئة إلزامي بموجب القانون الدولي. وبناءً على ذلك، يتحتم على الدول الأطراف في اتفاقية الإبادة الجماعية والمجتمع الدولي ككل ضمان الامتثال الفوري والكامل لإسرائيل لهذه التدابير الملزمة قانونًا. يجب على الدول الثالثة، وخاصة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أن تحترم القانون الدولي، وتلتزم بقرار المحكمة، وتعيد تأكيد التزامها بالعدالة، وتتجنب تسييس النظام القانوني الدولي.
وتعقيباً على قرار المحكمة، صرح الأستاذ عصام يونس، المدير العام لمركز الميزان لحقوق الإنسان، "يعتبر هذا الحكم ذا قيمة كبيرة، فهو بمثابة علامة فارقة في الجهد الجماعي المبذول لمحاسبة إسرائيل على جرائمها الفظيعة التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني. ويعتبر هذا القرار بمثابة خطوة أساسية نحو الحد من تمتع إسرائيل الدائم من الإفلات من العقاب والمحاسبة الذي يقدمه لها حلفاؤها. إن مسؤولية إنهاء الإبادة الجماعية المستمرة في غزة تقع الآن على عاتق المجتمع الدولي، الذي عليه أن يفي بالتزاماته القانونية ويتخذ تدابير حاسمة لحماية الفلسطينيين والفلسطينيات من جريمة الإبادة الجماعية التي تمارسها اسرائيل." وأضاف يونس، "إن إنهاء الحملة العسكرية الإسرائيلية المستمرة في غزة يجب أن يكون الهدف الأساسي في المرحلة القادمة".
وفي ضوء اعتبار محكمة العدل الدولية بأن هناك أساس معقول لاعتبار ما ترتكبه إسرائيل من جرائم أو أفعال في غزة يصل إلى مستوى الإبادة الجماعية، فإننا نؤكد على الالتزامات القانونية للدول الأطراف في اتفاقية الإبادة الجماعية، وكذلك بموجب القانون الدولي العرفي، بما يشمل مسؤوليتهم عن منع الإبادة الجماعية وإنهائها وضمان عدم ضلوعهم في الجريمة، بما في ذلك عن طريق الضغط على إسرائيل لوقف هجماتها العسكرية على قطاع غزة، وفرض حظر على بيع أو شراء الأسلحة في الاتجاهين على إسرائيل، ووقف الحماية الدبلوماسية السياسية، ومحاكمة مسؤولين إسرائيليين متهمين بارتكاب هذه الجريمة أو تسليمهم للعدالة. إن النتيجة التي توصلت إليها محكمة العدل الدولية، والقاضية بوجدود أساس معقول للاعتقاد بأن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية يضع مسؤولية إضافية على جميع الدول لاتخاذ إجراءات فورية لمنع هذه الجريمة. وعلى أعضاء مجلس الأمن أيضًا الالتزام باتخاذ تدابير ملزمة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة واحترام أمر محكمة العدل الدولية وإنفاده كجزء من التزامها القانوني بمنع الإبادة الجماعية وإنهائها. كما إن عدم تنفيذ الأمر الصادر عن محكمة العدل الدولية والتي تعتبر أعلى هيئة قضائية في النظام القانوني الدولي، لا يسمح باستمرار الإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم الدولية فحسب، بل يهدد وجود القانون الدولي واحترامه كمنظومة ضرورية وأساسية في النظام الدولي وعلاقات الدول.
وفي هذا السياق فقد عبر الأستاذ راجي الصوراني، المدير العام للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، بأن "هذا حدث تاريخي، فهذه المرة الأولى التي نرى فيها إسرائيل تحاسب على جرائمها أمام محكمة دولية. كنا ننتظر قراراً من محكمة العدل الدولية بأن توقف اسرائيل حربها وجريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني وفعلا حققت المحكمة العدالة التي سعينا إليها. نحن على ثقة بأن التدابير المؤقتة التي أمرت بها المحكمة لن تمكن اسرائيل من تطبيقها طالما لم توقف إطلاق النار. المحكمة كانت واضحة بأن على اسرائيل إيقاف حربها وجريمة الإبادة الجماعية التي تنفذها بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بشكل عاجل ومباشر".
إن هذا القرار يحمل رسالة واضحة، بأن لا دولة فوق القانون أو قادرة على الإفلات من المحاسبة القانونية. وبينما تبذل اسرائيل جهود منهجية لعرقلة العدالة، فقد انكشف الآن سعيها المستمر للإفلات من العقاب. وبهذا، فإن مؤسستنا تدعو مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للتعامل مع حكم محكمة العدل الدولية وتسريع التحقيقات مع كبار قادة الحكومة والعسكريين الإسرائيليين الذين ارتكبوا أو أمروا بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين/ات في قطاع غزة، أو ساعدوا على ارتكابها، أو قاموا بالتحريض على ارتكابها.
وقال الأستاذ شعوان جبارين، المدير العام لمؤسسة الحق بأن "هذا القرار هو تصريح ضمني بوقف إطلاق النار ويأمر اسرائيل بوضع حد لأفعالها وممارستها لجريمة الإبادة الجماعية، بما فيها ذلك أعمال القتل. يعيد هذا القرار الأمل بالمنظومة الدولية القانونية والتي عملت إسرائيل وحلفاؤها على تشويهها بإستمرار خلال 112 يوم مضت وخلال 75 عام منذ نكبة الشعب الفلسطيني المستمرة. وأضاف جبارين بأن "هذا القرار هو بمثابة فرصة تم انتزاعها من مضطهد غاشم رغم أنفه، كما جاء القرار ليقول للمجتمع الدولي بأن الإبادة الجماعية لا تسامح فيها. إن الطريق إلى العدالة طويل، لكننا يجب ألا نيأس من أن الشعب الفلسطيني سيحقق يومًا ما حقه في تقرير المصير والعودة".
تشكر مؤسساتنا جمهورية جنوب أفريقيا على دورها القيادي في رفع هذه الدعوى ونثمن جهودها والتزامها إنهاء الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك جريمة الفصل العنصري وجرائم الإبادة الجماعية، والتزامها المضي قدما ليحصل الشعب الفلسطيني على حقه بتقرير المصير، إعمالًا لمقولة الراحل نلسون مانديلا "نحن نعلم جيدا أن حريتنا غير مكتملة بدون حرية الفلسطينيين".
وأخيرا، فإن هذا القرار واصدار التدابير المؤقتة يمثل خطوة مهمة تأخذها محكمة العدل الدولية بهدف محاسبة إسرائيل على جرائمها وانتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني منذ 75 عاماً. في هذا الإطار نذكر العالم والمجتمع الدولي بأن غزة ما زالت تتعرض لجريمة الإبادة والتي لن تتوقف إلا في حال تكاتف المجتمع الدولي في وضع الضغط اللازم على إسرائيل لوقف اطلاق النار، فالوقت معيار مهم وضروري وأي تأخير هو بالضرورة سيؤدي إلى وقوع المزيد من الضحايا الفلسطينيين والفلسطينيات.