تعبر مؤسساتنا، المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ومركز الميزان، ومؤسسة الحق عن قلقها البالغ لتفشي العديد من الأمراض الوبائية، بين مئات الالاف من النازحين/ات الفلسطينيين/ات في مراكز الإيواء وتجمعات النازحين/ات في العراء بالأماكن العامة في قطاع غزة؛ بسبب الازدحام الشديد وطول مدة النزوح، والافتقار لمستلزمات النظافة والصحة، كنتيجة لسياسة التهجير والهجوم العسكري الإسرائيلي الذي دخل شهره الرابع.
وتعتبر مراكز الإيواء والتجمعات المكتظة بمئات آلاف النازحين/ات معظمهم من الأطفال والنساء بيئة خصبة لانتشار هذه الأمراض بسبب الافتقار لأدنى معايير ومقومات النظافة والرعاية فيها كالمياه النظيفة الآمنة والغذاء الكافي، والمراحيض الصحية، فضلاً عن تراكم النفايات وتجمع مياه الصرف الصحي العادمة داخلها.
وتحذر مؤسساتنا من انتشار الأوبئة والأمراض الخطيرة في شمال غزة نتيجة عدم قدرة طواقم الإسعاف والدفاع المدني من انتشال جثامين مئات الشهداء التي تحللت تحت الأنقاض.
وقد فاقمت الأضرار التي لحقت بشبكات المياه والصرف الصحي، واختلاط المياه العادمة بمياه الشرب، والنقص في مستلزمات النظافة من انتشار العدوى البكتيرية، في ظل عدم القدرة على الالتزام بالتدابير الأساسية للوقاية من العدوى ومكافحتها في قطاع غزة.
وقد فرضت إسرائيل خلال هجومها العسكري الواسع على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي إغلاقاً كاملاً للمعابر الحدودية مع القطاع، ومنعت دخول جميع الاحتياجات الأساسية، ومن ضمنها الماء والغذاء والدواء والوقود اللازم لتشغيل محطات مياه الشرب ومضخات الصرف الصحي. في حين يتم السماح بدخول بعض المساعدات للسكان إلا إنها ما زالت محدودة جدا ولا تغطي حاجة السكان الأساسية ولا تصل جميع أهالي القطاع. كما أن استمرار توقف محطة توليد الكهرباء الوحيدة في قطاع غزة عن العمل نتيجة لتوقف امدادات الوقود (السولار الصناعي) فاقم أزمة منظومة الخدمات الحيوية.
ويزيد من هذه الأوضاع الكارثية حصر معظم سكان قطاع غزة في محافظة رفح التي تفتقد للبنية التحتية اللازمة لخدمة أكثر من مليون و400 ألف نازح/ة، بما يشمل عدد سكانها الأصليين البالغ عددهم نحو 280 ألف نسمة.
علمًا أن رفح تعاني من ضعف في الخدمات الصحية، إذ يتوفر فيها مستشفى حكومي بقدرة سريرية لا تزيد عن 65 سريرا فقط، ويفتقر للعديد من التخصصات، والمستشفى الإماراتي للولادة الحكومي والمستشفى الكويتي الخاص، وهي مستشفيات لا تستطيع أن تلبي الخدمات الصحية المتعددة خاصة في ظل التدهور العام للقطاع الصحي والضغط بسبب كثرة الإصابات.
وتعكس جملة سياسات الاحتلال وهجماته العسكرية، تعمد إسرائيل القوة القائمة بالاحتلال دفع قطاع غزة إلى كارثة إنسانية كبيرة وطويلة الأمد، ويتضح ذلك من تصريحات عدد من الوزراء في الحكومة الإسرائيلية، ونخبها السياسية. فقد صرحت ماي غولان وزيرة النهوض بمكانة المرأة الإسرائيلية "يجب تدمير البنية التحتية في قطاع غزة من أساساتها وقطع الكهرباء فوراً"، فيما أكد يسرائيل كاتس وزير البنى التحتية والطاقة فرض عقاب جماعي من خلال وقف تزويد قطاع غزة بالكهرباء والمياه. أما التصريح الأخطر فقد ورد على لسان غويرا آيلاند، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، وجاء فيه "المجتمع الدولي يحذرنا من كارثة إنسانية والأوبئة الشديدة، لكن يجب ألا نخجل من هذا، ففي نهاية المطاف فإن الأوبئة والمصاعب في جنوب قطاع غزة ستقرب النصر وستقلل الخسائر في الجيش الإسرائيلي".
وأفاد الدكتور موسى عابد، مدير عام الرعاية الصحية الأولية في وزارة الصحة الفلسطينية، لطواقمنا بأن حالة تكدس مئات آلاف النازحين/ات جنوب قطاع غزة، تسببت بانتشار عدة أمراض وبائية، مضيفاً أن الأمراض الموسمية باتت تشكل خطورة كبيرة على حياة السكان في ظل انهيار المنظومة الصحية في مناطق شمال ووسط قطاع غزة.
وأكد أن بعض الأمراض التي تم رصدها في مآوي النازحين/ات تم القضاء عليها عالمياً في القرن الماضي. ووفقاً للدكتور عابد، فقد تم رصد نحو 626 ألف حالة مرضية في مناطق جنوب قطاع غزة، وذلك مع تعذر الحصول على احصائيات الحالة الوبائية في شمال قطاع غزة.
وبيّن أنه تم تسجيل 180 ألف حالة مصابة بالتهابات الجهاز التنفسي، و250 ألف حالة إصابة بمرض النكاف، و135 ألف حالة إسهال، و26 ألف حالة إصابة بالجدري، و35 ألف حالة إصابة بعدوى القمل.
كما تم تسجيل حالات لمرض اليرقان (الصفار) أصابت الكبار والصغار، وهذا ما يقود إلى الشك بوجود حالات التهاب كبد فيروسي، لكن عدم وجود الإمكانيات الطبية، ونفاد شرائح الفحص الخاص بهذه الأمراض يحد من القدرة على تأكيد الإصابة بها.
وقد أكد الدكتور عابد أن قوات الاحتلال الإسرائيلية دمرت نحو 80٪ من عيادات الرعاية الصحية الأولية في قطاع غزة، وتبقى 7 عيادات عاملة فقط من أصل 52 عيادة، وهو ما يفاقم انتشار الأمراض ويحد من محاربتها في مراكز الإيواء.
كما لا يتوفر سوى 20٪ من الأدوية الخاصة بصحة الأم والطفل، إضافة الى عجز كبير في توفرها في القطاع الخاص والأهلي.
وقد توقفت العيادات الصحية عن إعطاء التطعيمات للأطفال الرضع منذ بداية أكتوبر/تشرين الأول الماضي لعدة أسابيع حيث قامت بتوفيرها جهات دولية في 28 ديسمبر/كانون الأول 2023، بحيث تم إدخال 7 أنواع من التطعيمات، ولغاية الآن لم يتم توفير تطعيما الروتا الخاص بفيروس النزلة المعوية، وتطعيم البولو الخاص بمكافحة مرض شلل الأطفال، وهي أمراض خطيرة جداً.
كما أفاد الطبيب صلاح الجعبري المتواجد في النقطة الطبية لمركز إيواء مدرسة السلام شرق رفح لباحثينا أن أمراض الإسهال والنزلات المعوية وأمراض الجهاز التنفسي العلوي تنتشر بين الأطفال بشكل كبير جدًا. وذكر أن النقطة الطبية تستقبل يومياً نحو 150 حالة مرضية معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن. وتنتشر العدوى بين النازحين/ات داخل المدرسة بسبب التلوث والتكدس الهائل وعدم توفر مراحيض كافية وعدم توفر المياه والصابون وأدوات النظافة الصحية.
كما لاحظ الأطباء انتشار مرض الكبد الوبائي (أ) بين الأطفال بسبب قلة النظافة واستخدام المراحيض المشتركة وعدم تمكن الأطفال من غسل أياديهم بالماء والصابون.
ووفقاً للطبيب الجعبري يحتاج مريض الكبد الوبائي (أ) إلى العزل وأغذية تحتوي على الخضار والفواكه وهو غير متوفر ولا يمكن توفيره في ظل هذه الظروف الصعبة.
ويتخوف الأطباء من انتشار أمراض الإسهال والتهابات الأغشية السحائية والتهابات الدماغ، وهي أمراض معدية وقد سُجلت حالات عديدة منها، ويصعب السيطرة عليها في حال انتشارها في ظل الإمكانات الطبية الضعيفة المتوفرة.
ويحتاج بعض المرضى الذين يعانون من الضيق المزمن في الشعب الهوائية إلى الأكسجين بشكل مستمر وهو غير متوفر في مراكز الإيواء.
كما تعاني مراكز الإيواء من نقص شديد في محاليل الإشباع اللازمة للأطفال الذين يعانون من إسهال وبدت عليهم علامات الجفاف، وكبديل عن محلول الاشباع يقوم الأطباء بتعليم الأهالي كيفية تحضير محلول إشباع بإضافة الملح والليمون على الماء وتقديمه لأطفالهم.
وأفاد والد الطفلة جود الدباري، 6 سنوات، لطواقمنا أن طفلته أصيبت بمرض الكبد الوبائي (أ)، بسبب انعدام النظافة، واستخدام المراحيض المشتركة.
وأضاف الدباري أن طفلته تحتاج للعزل وهو أمر صعب، حيث تتواجد الطفلة حالياً في الغرفة الصفية مع نحو 50 شخصا من الأطفال والنساء وكبار السن، وتحتاج إلى الأغذية الصحية من الخضار والفواكه، والتي لا يمكن توفيرها بسبب قلتها في الأسواق وارتفاع أسعارها.
ويخشى الدباري حالياً من إصابة باقي أطفاله والأطفال المتواجدين في الغرفة من المرض ذاته. وأشار أنه في بعض الأحيان يتعمد بعض الأهالي إخفاء إصابة أطفالهم بمرض الكبد الوبائي، وذلك بسبب عدم توفر أماكن للعزل، وهو ما سيؤدي إلى انتشار المرض بصورة كبيرة.
وأفادت الطبيبة آية عواد التي تعمل في مركز إيواء للنازحين/ات لباحثينا، أن الجرب والقمل والجدري ينتشر بين الأطفال، بسبب الازدحام الشديد والاختلاط بين الاطفال، في حين لا تتوفر العلاجات الضرورية لهذه الحالات.
كما تعاني النساء من التهابات البول الشديدة (UTI) ، بسبب صعوبة الحفاظ على النظافة الشخصية في ظل قلة المياه والمرافق الصحية والغذاء الصحي.
وتوجد العديد من النساء الحوامل داخل مركز الإيواء، ولا يُقدم لهن سوى الحديد والمسكنات فقط، وبعضهن يحتاج إلى رعاية خاصة وأدوية غير متوفرة.
يشار إلى أن 30 مستشفى من أصل 36 في قطاع غزة، خرجت عن العمل جراء القصف أو التدمير أو غياب الإمكانات، وحاليا جميع النازحين/ات شمال وادي غزة يعانون من عدم وجود فعلي للخدمات الصحية رغم إعادة تشغيل بعض المستشفيات والمراكز الصحية بشكل جزئي.
ترى مؤسساتنا أن ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة من استهداف ممنهج للمدنيين والمدنيات وللبنى التحتية الأساسية، ودفع المنظومة الصحية للانهيار التام، وخلق بيئة قسرية عمقت من الكوارث الإنسانية، وتسببت في انتشار الأمراض الوبائية بين مئات آلاف النازحين/ات، يندرج في إطار جريمة الإبادة الجماعية، ويشكل انتهاكا صارخا وخرقا جسيما للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
كما تتناقض الجرائم الإسرائيلية المستمرة بحق المدنيين/ات مع التزاماتها القانونية الواردة في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، والتي تندرج ضمن الجرائم التي يحظرها ميثاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وفي ضوء ما سبق، فإن مؤسساتنا الحقوقية تحذر من الأوضاع الكارثية الحالية وتدهور الخدمات والمنظومة الصحية تزامناً مع انتشار الأمراض الوبائية في مراكز النزوح، وهو ما قد يؤدي إلى وفاة الالاف.
وتطالب مؤسساتنا المجتمع الدولي بإجبار إسرائيل على وقف فوري لجريمة الإبادة الجماعية ضد سكان قطاع غزة المدنيين/ات، والسماح بإدخال المواد الأساسية إلى قطاع غزة. وتدعو المجتمع الدولي للضغط على إسرائيل من أجل السماح بعودة السكان إلى أماكن سكناهم في شمال وادي غزة، لإنهاء معاناتهم في مراكز الإيواء.
وتحث مؤسساتنا المنظمات الإنسانية الدولية ومنظمة الصحة العالمية على التدخل الفوري وتسليط الضوء على الأوضاع الكارثية للحد من المخاطر التي بدأت تتكشف وذلك لإنقاذ حياة الأطفال والمرضى وكبار السن التي باتت مهددة بشكل كبير وتقديم المساعدات الضرورية والاحتياجات الأساسية إلى مراكز الإيواء للحد من تفاقم الكارثة الإنسانية الحالية.