أصدرت السلطات الإسرائيلية أمر إخلاء جديد بحق الفلسطينيين/ات القانطين/ات في شمال قطاع غزة يوم السبت الموافق 28 تشرين الأول/أكتوبر 2023. أصدر المتحدث باسم الجيش الاحتلال الإسرائيلي يوم السبت تعليماته "لجميع سكان شمال غزة ومدينة غزة بالانتقال مؤقتًا إلى الجنوب على الفور". وبأنه "ستكون العودة إلى شمال غزة ممكنة بمجرد انتهاء الأعمال العدائية المكثفة". كما تم توزيع منشور جديد على السكان جاء فيه: "تحذير عاجل! إلى سكان قطاع غزة – محافظة غزة أصبحت ساحة قتال. الملاجىء في شمال قطاع غزة ومحافظة غزة غير آمنة. عليكم الاخلاء الفوري والتوجه إلى مناطق جنوبي وادي غزة!" وفي وقت لاحق من اليوم ذاته، أعلن رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيلي أن الجيش الإسرائيلي سيوسع عملياته البرية في غزة خلال الساعات والأيام المقبلة.
وفي السياق العام، تجدر الإشارة أنه في وقت متأخر بعد ظهر يوم 27 أكتوبر وحتى ساعات الصباح الباكر من يوم 29 أكتوبر، قُطعت خدمات الاتصالات عن غزة بشكل كامل، مما أدى إلى فقدان شبه كامل للاتصال والتواصل بين السكان المدنيين/ات الذين يزيد عددهم عن مليوني نسمة القابعين في القطاع. كما وأفادت التقارير أن إسرائيل كثفت هجماتها في جميع أنحاء قطاع غزة، بما في ذلك القصف المدفعي على المنطقة الشمالية والشمالية الشرقية. هذا الانقطاع عن الاتصالات يمكّن إسرائيل من التعتيم على الجرائم الجماعية التي ترتكبها قواتها ضد الفلسطينيين/ات في غزة، الأمر الذي يزيد من إفلاتها من العقاب على الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي التي ترتكبها. كما وساهم قطع إسرائيل للاتصالات السلكية واللاسلكية تعذر وصول السكان المدنيين/ات في غزة إلى الخدمات الطبية وغيرها من الخدمات الأساسية التي تضمن بقائهم على الحياة، حيث لم تتمكن سيارات الإسعاف وفرق الدفاع المدني من تحديد مكان الجرحى أو الأشخاص المحاصرين تحت الأنقاض، كل ذلك وسط هجمات إسرائيلية مكثفة لا دون توقف خلال الليل.
كانت مؤسساتنا - مركز الميزان لحقوق الإنسان ومؤسسة الحق والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان - قد أدانت بشكل قاطع أوامر الإخلاء السابقة التي أصدرها الجيش الإسرائيلي في 13 و21 أكتوبر، واعتبرناها غير قانونية أومنطقية أو قابلة للتنفيذ. في الوضع الحالي هناك عشرات الآلاف من المدنيين/ات الفلسطينيين/ات في شمال غزة غير الراغبين أو غير قادرين على الإخلاء - بما في ذلك الجرحى والمرضى، والعاملين/ات في المجال الإنساني، والعاملين/ات في المجال الطبي، والأشخاص ذوي الإعاقة، والمسنين/ات، والأطفال، والنساء، بما في ذلك النساء في مراحل متقدمة من الحمل. وقد أعلنت المرافق الطبية أنها غير قادرة على الإخلاء. وفي ظل الظروف الحالية، يعد معبر إيرز أقرب طريق لإخلاء آلاف المدنيين/ات الفلسطينيين/ات المتواجدين حاليًا في شمال غزة، وخاصة للجرحى والمرضى. والجدير ذكره في هذا السياق، أنه قبل يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، كان مئات المرضى الفلسطينيين/ات الذين يحملون تصاريح خروج تصدرها إسرائيل يعبرون معبر إيريز بانتظام للحصول على العلاج في مستشفيات الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وإسرائيل. وأوقفت السلطات الإسرائيلية هذا الإجراء في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وبعد صدور أمر الإخلاء في 21 أكتوبر/تشرين الأول، أطلقت مؤسساتنا تحذيراً حول خطورة الوضع. وكان ينبغي على المجتمع الدولي التحرك العاجل فور سماع المؤشرات التي أعربت عنها إسرائيل بأنها يمكن أن تعتبر المدنيين/ات المتبقين في شمال غزة أهدافاً عسكرية. ومع ذلك، ذهبت نداءاتنا أدراج الرياح إلى حد كبير، وخاصة بين الدول الغربية.
وفي أعقاب انقطاع الاتصالات، فقدت منظماتنا الاتصال بجميع الزملاء والزميلات في غزة. وإن نجا زملاؤنا من 22 يومًا تقدر بثلاثة أسابيع شهدت خلالها هجمات إسرائيلية متواصلة، فقدوا على إثرها أفرادًا من عائلاتهم/ن وأصدقائهم/ن ومنازلهم/ن وفيها قتل ما يقارب 8000 فلسطيني/ة وتدمرت أحياء بأكملها في غزة. في 27 تشرين الأول/أكتوبر، وقبيل التوغل البري الإسرائيلي، قال الباحث الميداني لمؤسسة الحق في غزة، محمد أبو رحمة: " صار الموت روتينياً في كل صبح ومع الغروب .. لم يعد الليل للسمر والضحكات ولا حتى للمنام والأحلام.. بل قاتل صامت عنيد ووقتاً مفضلاً لعدو مغتال."
لكل ما سبق تشعر مؤسساتنا بقلق بالغ على سلامتهم وسلامة جميع المدنيين/ات في غزة، وخاصة المتواجدين حالياً في شمال القطاع. مؤكدين على أن إسرائيل عليها أن تتحمل مسؤولياتها والتزاماتها بموجب القانون الدولي لحماية جميع المدنيين/ات الفلسطينيين/ات الذين بقوا أو عادوا إلى شمال غزة، والذين لا يزالون محميين/ات بموجب القانون من الاستهداف المباشر والهجمات العشوائية وغير المتناسبة.
كما وتشعر مؤسساتنا بنفس القدر من القلق إزاء التهديدات بشن هجوم إسرائيلي محتمل يستهدف مستشفى الشفاء الواقع في مدينة غزة، الذي يصنف بأنه أكبر مجمع طبي في غزة، ويهتم حاليًا بمعالجة آلاف المرضى المصابين/ات وإيواء آلاف المدنيين/ات الذين ليس لديهم مكان آخر يقيمون فيه. فمن المعلوم أنه وفقاً لأحكام القانون الإنساني الدولي، يجب في جميع الأوقات احترام وحماية الوحدات الطبية، مثل المستشفيات، ويجب ألا تكون هدفاً للهجوم. وإن توجيه الهجمات عمدًا ضدها دون اعتبارات عسكرية مشروعة للأعمال الضارة، يشكل جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
لا يمكن إنكار الحقائق على أرض الواقع فلا يوجد مكان آمن في غزة، ولا يوجد حالياً أي مخرج. هناك ما يقدر بنحو 1.4 مليون فلسطيني في غزة مهجرون داخلياً، وقد نزح الكثير منهم أكثر من مرة. لذلك يأتي أمر الإخلاء الإسرائيلي الجديد في ظل كل الإشكاليات المذكورة سابقة، يضاف إليها أنه من الناحية العملية غير قابل للتطبيق. فمنذ 7 أكتوبر دمر الاحتلال الإسرائيلي حوالي 45 بالمائة من الوحدات السكنية في غزة، أو أصبحت غير صالحة للسكن، أو تعرضت لأضرار متوسطة/خفيفة،. وهنالك أحياء بأكملها تم تدميرها، خاصة في بيت حانون وبيت لاهيا ومدينة غزة. ولم يعد هناك أماكن يلتجأ إليها السكان. بالتالي فإن الانتقال إلى جنوب غزة ليس مستحيلاً فقط بالنسبة للعديد من الأشخاص المستضعفين فحسب، بل ولا توجد أي ضمانات للسلامة والأمن في الجنوب، حيث تواصل إسرائيل حملة القصف المتواصلة في كل أماكن القطاع. وهذا يشير إلى أن أوامر الإخلاء الإسرائيلية لم تصدر من أجل سلامة السكان المدنيين/ات، بل تهدف إلى التهجير القصري لمئات الآلاف من الفلسطينيين/ات قسراً وتقريبهم من الحدود مع مصر.
يتطلب التطهير العرقي الجماعي الذي يلوح في الأفق للفلسطينيين/ات في غزة تدخلاً فورياً، حيث أن أكثر من ثلاثة أرباع سكان غزة هم من اللاجئين/ات الذين حرمتهم إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، من حقهم في العودة إلى ديارهم وأراضيهم التي هجروا منها عام 1948. وبعد مرور سبعة عقود، لا يزال المجتمع الدولي غير قادر على تنفيذ وتحقيق ذلك، على الرغم من أن حق العودة لملايين اللاجئين/ات الفلسطينيين/ات هو حق معترف به بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194.
إن ما نشهده في غزة من جرائم وفظائع بما في ذلك أعمال تصل إلى وصف الإبادة جماعية، سوف تطارد البشرية لعقود قادمة. لذلك نجدد دعوتنا للمجتمع الدولي إلى التدخل الفوري لوقف إطلاق النار. ونؤكد أن هذا التدخل يجب أن يكون مصحوباً بدخول الوقود والمساعدات الإنسانية، بما في ذلك المياه والغذاء والإمدادات الطبية، دون أي معيقات، ليتم توزيعها في جميع أنحاء قطاع غزة بأكمله للتخفيف من وطأة الكارثة الإنسانية المستمرة الناجمة عن سياسات العقاب الجماعي الإسرائيلية ضد السكان المدنيين/ات في غزة. كذلك يتعين على الدول الأطراف الثالثة الضغط على إسرائيل للسماح بالنقل الفوري وغير المشروط للمرضى من غزة لتلقي العلاج الطبي، بما في ذلك العلاج المنقذ للحياة.
ونؤكد موقفنا بأن هذه الجرائم والفظائع يجب أن تنتهي فوراً وأن لا تتكرر، أن على المجتمع الدولي ضمان تفكيك نظام الفصل العنصري الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي، وإلغاء جميع القوانين والسياسات والممارسات التمييزية واللاإنسانية ضد الشعب الفلسطيني بأكمله، وعلى اسرائيل الإنسحاب فوراً ودون قيد أو شروط من الأرض الفلسطينية المحتلة، وذلك بشكل يمكّن الفلسطينيين/ات من أن يمارسوا حقهم/ن غير القابل للتصرف في تقرير المصير بشكل كامل.