في أعقاب اقتحام مدينة جنين والعملية العسكرية الشرسة التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على مخيم جنين للاجئين/ات صباح يوم الخميس، 26 كانون الثاني/يناير 2023، التي أدت إلى استشهاد 10 فلسطينيين/ات بمن فيهم طفلين وامرأة،[1] تطالب مؤسسة الحق المجتمع الدولي بالتدخل العاجل واتخاذ إجراءات فورية وملموسة. أثناء اقتحامها للمخيم، قامت قوات الاحتلال بقتل طفل ودهس جثته بمركبة عسكرية، مما أدى إلى قطع أذنه اليمنى وتشويه وجهه.[2] وبحسب ما أفادته وزارة الصحة الفلسطينية، فقد أسفر الاقتحام عن إصابة 20 فلسطينيا/ة، بعضهم في حالة حرجة.
وفقاً لتوثيقات مؤسسة الحق الأولية، فقد اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي حي جورة الذهب وسط مخيم جنين في ساعات الصباح الباكر يوم الخميس الموافق 26 كانون الثاني/يناير 2023، مصحوبة بقوات خاصة تقود سيارات مدنية، بما في ذلك شاحنة فلسطينية لنقل الحليب والألبان، ومن ثم حاصرت بناية سكنية لعائلة الصباغ. تزامناً مع ذلك، داهمت قوات الاحتلال عدّة أبنية سكنية قريبة من بناية عائلة الصباغ ونشرت جنودها، من بينهم قناصة، داخل المنازل التي استخدمت كنقاط للقنص والاختباء، مروّعين بذلك سكان المنازل المدنيين/ات ومعرضين حياتهم/ن للخطر. بعد ذلك، بدأت قوات الاحتلال الإسرائيلي بقصف بناية الصباغ وإطلاق الرصاص نحو البناية، مما أدى إلى إصابة وقتل أحد الفلسطينيين بالرأس. ثم قام مسؤول في المخابرات الإسرائيلية بالاتصال بأحد أفراد عائلة الصباغ، وأمرها هي وكافة من في البناية بالخروج، آمراً بأن يخرج أحدهم مرتدياً زياً باللون الأبيض. أثناء المكالمة الهاتفية وبينما توجه المتواجدون لمغادرة المبنى، أطلقت قوات الاحتلال الرصاص نحوهم مصيبين أحدهم في القدم. بعد الخروج من البناية، قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي لاحقاً بنزع ملابس الفلسطيني الذي طلب منه ارتداء زيٍّ باللون الأبيض بشكل جزئي، وضربه ومن ثم اعتقاله.
بين الساعة السابعة والتاسعة والنصف صباحاً من اليوم المذكور، أطلقت قوات الاحتلال الإسرائيلي قذائف ورصاص حي بشكل كثيف في المنطقة، مما أدى إلى تدمير واسع النطاق لبناية عائلة الصباغ، وتدمير منزل آخر بشكل جزئي. قتل ثلاثة فلسطينيين جراء القصف الكثيف لبناية عائلة الصباغ، عثر على اثنين منهم في حالة احتراق كامل.
كما واستهدفت قوات الاحتلال نادي اجتماعي ورياضي في المخيم باستخدام جرافة عسكرية، مما أدى إلى تدمير سقف من الصفيح يغطي مدرجات إسمنتية وعدد من السيارات المركونة في ساحة النادي، بينما تواجد فلسطيني داخل إحداهن، مما أدى إلى إصابته بشكل بالغ. كما ونشير أن محولات الكهرباء تم استهدافها مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي وشبكة الانترنت في المخيم ومحيطه، بما في ذلك مستشفى جنين الحكومي، وتعرضت المنطقة لإطلاق قنابل الغاز، مما أدى إلى وقوع إصابات اختناق ضمن المرضى في مستشفى جنين الحكومي بمن فيهم النساء والأطفال.
ومن المثير للقلق قيام السلطات الإسرائيلية بإبلاغ جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني أن الكوادر الطبية ستُمنع من دخول مخيم جنين بدون التنسيق المسبق مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر. تشير توثيقات مؤسسة الحق أن هذه الممارسة أصبحت شائعة أثناء اقتحامات قوات الاحتلال لمخيم جنين.
استهداف مخيم جنين في السياق الاستعماري
منذ بدء عمل حكومة الاحتلال الإسرائيلي اليمينية المتطرفة الجديدة، وفي مدة زمنية لا تزيد عن الشهر، عملت وبشكل فعال على تنفيذ المبادئ التوجيهية والاتفاقيات الإئتلافية والتي دعت فيها إلى ترسيخ الهيمنة اليهودية الإسرائيلية وضم الضفة الغربية مخالفة للقانون الدولي، حيث عملت على تعميق ممارسات الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري على جانبي الخط الأخضر وحرمان الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير والعودة، فمنذ بداية العام ولغاية 25 كانون الثاني/يناير، قتلت قوات الاحتلال (20) فلسطينيا، أي بمعدل فلسطيني كل يوم.[3] بحلول 26 كانون الثاني/يناير، وفي أعقاب الحملة العسكرية على جنين، بلغ عدد الشهداء هذا العام (36).[4] وفي حين أن الحكومة الجديدة صريحة في رؤيتها لكيفية توسيع مشروع الاستعمار الاستيطاني، إلا أن سياسة استخدام القوة المفرطة ليست بجديدة، كما أنها ليست حكراً على حكومة يمينية متطرفة، بل تشكل وجهاً من أوجه نظام الأبارتهيد والاستعمارالاستيطاني والانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني المستمرة بشكل يومي على مدار السبعة عقود الماضية. في الواقع، شهد عام 2022 استشهاد (192) فلسطينيا/ة، بمن فيهم (44) طفلاً و(7) نساء، (53) منهم في محافظة جنين،[5] على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين المستعمرين، مما يجعله أحد أكثر الأعوام دموية منذ عام 2005.
حرم أهالي مخيم جنين منذ عام 1948 من ممارسة حقهم في العودة إلى منازلهم/ن وممتلكاتهم/ن االتي هُجّروا منها قسراً خلال النكبة. ومنذ احتلال الإسرائيلي عام 1967، وأهالي المخيم يعيشون تحت وطأة الاحتلال والتوسع الاستيطاني وجدار الفصل العنصري والحواجز العسكرية والسيطرة على مواردهم الطبيعية بينما يتعرضون بشكل مستمر للاقتحامات العسكرية والقتل وحملات العقوبات الجماعية. ويذكرنا الاقتحام الدموي في يوم 26 كانون الثاني/يناير لمخيم جنين بالمجزرة التي ارتكبت بحقهم عام 2002 خلال الانتفاضة الثانية، حين قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي في حينه (52) فلسطينيا/ة وهدمت (169) منزلاً، وهجرّت قرابة ربع سكان المخيم، بعد أن قامت بشن عمليات تجريف وتدمير في المخيم دون مساءلة أو جبر الضرر.
يستمر الشعب الفلسطيني منذ سبعة عقود بالنضال ضد نظام الاستعمار الاستيطاني، وتكاثفت جهوده منذ اندلاع انتفاضة الوحدة في أيار/مايو 2021؛ للمطالبة بنيل حريته وحقه في تقرير مصيره. في شباط/فبراير 2022، شن الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي حملة أسماها "كاسر الموج"، والتي تمثلت بممارسة سياسات القتل خارج إطار القانون، مستخدماً القوة المفرطة والاعتقال التعسفي وفرض التقييدات على الحركة وهدم المنازل العقابي؛ وذلك بهدف القضاء على أي مقاومة من الشعب الفلسطيني، خاصة في محافظتي جنين ونابلس. إن الضم الفعلي الرسمي وسياساته الممارسة في الضفة الغربية تؤكد على أن السلطات الإسرائيلية لا تنوي فقط توسيع استيطانها، بل القضاء على كافة أشكال المقاومة لنظامها القائم على الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري بما فيه المقاومة الشعبية، بالإضافة إلى المناصرة القانونية وذلك بهدف محو الهوية والوجود الفلسطيني.
التحليل القانوني
تعتبر ممارسات قوات الاحتلال الإسرائيلي في مخيم جنين صباح يوم 26 كانون الثاني/يناير 2023 انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي بما في ذلك قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، وترقى لجرائم دولية يمكن مقاضاة مرتكبيها بمقتضى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. بدايةً، ونظراً لعدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي وعدم شرعية نظامه القائم على الفصل العنصري، فإن العملية العسكرية بأكملها في مخيم جنين تعتبر عملاً من أعمال العدوان المحظور وفق قانون مسوغات الحرب (jus ad bellum) والذي يتعارض مع القواعد الدولية الآمرة المنظمة لاستخدام القوة. إضافة إلى ذلك، فإن ممارسة السلطات الإسرائيلية، كقوة قائمة بالاحتلال، لسلطاتها في الأرض المحتلة يجب أن يتم وفق إطار إنفاذ القانون المنظم تحت قانون حقوق الإنسان الدولي. حيث يعتبر الاستعمال المفرط وغير المتكافئ للقوة تلقائياً انتهاكاً للحق في الحياة، المنصوص عليه في البند (6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والمترسخ في واجب عدم استعمال قوة أكثر مما تقتضيه الضرورة القصوى لتنفيذ الاعتقال وفق حدود القانون. ومن الجدير بالذكر، أن عدد من الفلسطينيين الذين استشهدوا جراء العملية العسكرية على مخيم جنين تم اسهداف الجزء العلوي من جسدهم، مما يدل على استهداف قوات الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين بنية القتل، وبهذا فإن استهدافهم يرقى لجريمة حرب (القتل العمد) بحسب المادة 8(2)(أ)(1) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. إضافة إلى أن استهداف منازل بقذائف في وسط منطقة مكتظة بالسكان يعتبرانتهاكاً للمادة (53) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحرم تدمير ممتلكات المدنيين، وانتهاكاً جسيماً لاتفاقيات جنيف، ويرقى لجريمة حرب. كما أن قوات الاحتلال الإسرائيلي خرقت القانون الدولي الإنساني باستهداف مولدات الكهرباء، بوصفها من الأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين. وفي ذات السياق، نشير إلى أن الطريقة التي دخلت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي المخيم بواسطة مركبة مدنية -أي متظاهرين بالصفة المدنية- غدراً يعتبر محرماً وفقاً لقواعد القانون الدولي الإنساني العرفي والمادة (8)(2)(ب)(11) من نظام روما الأساسي.
التوصيات
إن صمت المجتمع الدولي وعدم اتخاذ إجراءات ملموسة من قبل الدول الثالثة في مواجهة انتهاكات السلطات الإسرائيلية وممارساتها اللاقانونية، بما فيها فرض العقوبات اللازمة وحظر تجارة السلاح مع إسرائيل، لإنهاء جريمة الفصل العنصري، وضمان ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير مصيره، يساهم في إفلات إسرائيل من العقاب، واستمرار الأخيرة في حرمان الشعب الفلسطيني من العيش بحرية وكرامة. ولذلك، على المجتمع الدولي معالجة الأسباب الجذرية لهذا العنف والانتهاكات الممنهجة بحق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك حرمانه من ممارسة حقوقه غير القابلة للتصرف، واستمرار فرض نظام الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري والاحتلال غير القانوني بحقه.
في ظل الوضع القائم لآليات المحاسبة الدولية بما فيها التحقيق الجاري في حالة فلسطين من قبل المحكمة الجنائية الدولية، ولجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة المعنية بالأرض الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية، وإسرائيل، فإننا نطالب الدول الثالثة بدعم هذه الآليات الدولية المستقلة لتعمل على محاسبة السلطات الإسرائيلية على جرائمها الدولية المرتكبة ضد الفلسطينيين، وأن تعمل الدول الثالثة، كل في مجال اختصاصها، على التحقيق والمحاسبة وتسليم مرتكبي الجرائم إلى المحكمة الجنائية الدولية. كما ونطالب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية السيد "كريم خان" أن يصدر بياناً تحذيرياً حول استمرار الهجوم الممنهج وواسع النطاق بحق الشعب الفلسطيني وأن يفي بإعلانه زيارة فلسطين عام 2023 كجزء من التحقيق الذي يقوده مكتبه منذ آذار/مارس 2021.
* تم تحديث هذا البيان، الذي نشر أساساً بتاريخ ٢٧ كانون الثاني/يناير ٢٠٢٣، تبعاً لآخر توثيقات الحق، علماً بأنه تم إجراء بعض التعديلات للتوضيح والدقة بتاريخ ٣١ كانون الثاني/يناير ٢٠٢٣.