في ساعات الصباح الباكر من اليوم الثاني عشر من يناير/كانون الثاني 2022، وفي حوالي الساعة الثالثة صباحاً، كان المواطن الفلسطيني- الأمريكي عمر عبد المجيد أسعد البالغ من العمر 80 عاماً عائداً إلى منزله في قرية جلجليّا- شمالي غرب مدينة رام الله- بعد زيارة لأقاربه؛ وذلك عندما أوقف جنود الاحتلال سيارته.[1] إذ أحاطت قوات الاحتلال الإسرائيلي بسيارته وسحبته من داخلها واعتدت عليه ووضعت عصبة على عينيه وقيّدته واقتادته إلى مبنى قيد الإنشاء.[2]
وبحسب رئيس مجلس قروي جلجليّا، السيد فؤاد قطّوم، فقد اقتحم حوالي خمسون جندياً إسرائيلياً القرية في ساعات الصباح الباكر، وتجوّلوا بين بيوت القرية.[3] وبعد أن غادروا، هرع السكان إلى المبنى الذي احتجزت قوات الاحتلال المواطن عمر أسعد فيه؛ ليجدوه ميتاً، وأحد معصميه مقيّداً بسلك بلاستيكي.[4]
تعدّ قرية جلجليّا من القرى الهادئة التي تتمتع بالرخاء والتي لم تشهد أية حوادث مماثلة سابقاً، كما تحتوي القرية على عدد كبير من المباني قيد الإنشاء، إذ يحمل معظم سكانها جنسيات مزدوجة ويعيشون خارج البلاد. وكغيرها من القرى المحيطة، كقرية النبي صالح مثلاً، تقع قرية جلجليّا بعيداً على الشارع الرئيسي ويحتاج سكانها للتنقل خلال قرى أخرى للوصول إلى الشارع.
وفقاً لتوثيق مؤسسة الحق، فقد أساءت قوات الاحتلال الإسرائيلي معاملة مجموعة فلسطينيين كانت قد اعتقلتهم من القرية، بصورة هستيرية وعنيفة. فقد احتجزت إلى جانب السيد عمر أسعد- 80 عاماً- السيد مروح محمود عبود عبد الرحمن- 50 عاماً من قرية عارورة في محافظتي رام الله والبيرة، والذي كان ينقل الخضار والفواكه مع صديقه من قرية عبوين إلى جلجليّا، حيث أوقفتهما قوات الاحتلال وصادرت مركبتهما واحتجزتهما في مبنى قيد الإنشاء.[5]
إفادات شهود العيان في مكان الحدث:
أفاد مواطن من سكان المنطقة :
"في حوالي الساعة الثالثة فجراً من الأربعاء 12/01/2022، سمعتُ صوتاً بالقرب من المنزل وعندما نظرت من طرف النافذة شاهدتُ سيارة من نوع خصوصي أي ليست شحن وكان تقريباً ستة جنود يحيطون بها ومن ثم شاهدت جنود الاحتلال الذين كانوا بالزي العسكري وكان واضحاً هذا لوجود إنارة في الشارع وكانوا جنوداً نظاميين حسب زيهم المعروف لي، وقد شاهدتهم يخرجون شخصاً من خلف المقود للسيارة وقد كان هناك جدال أو صوت يشبه الصراخ. لم أعرف ما الذي يجري وكانت المسافة لا تزيد عن عشرين متراً عن مكان وجودي. شاهدتُ الجنود بعد جدال استمر ما بين عشر إلى خمس عشرة دقيقة يمسكون ذلك الشخص من اليد اليمنى وآخرون من اليد اليسرى وقد وضعوا ما يشبه العصبة أو الغطاء على رأسه وساروا به إلى الجنوب من منزلنا مبتعدين عنا لغاية لم أعد أراهم. أحد الجنود ركب سيارة الشخص الذي أنزلوه منها وسارت إلى نفس الاتجاه الذي ذهب منه الجنود والشخص المذكور".[6]
كما تم اعتقال السيد عبد الرحمن- 52 عاماً- ليلاً بينما كان ينقل الخضار والفواكه مع صديق له في حوالي الساعة 3:30 صباحاً، إذ عقّب قائلاً:
"فتح الجندي الباب حيث أجلس وقفز إلى السيارة وآخر فتح باب السائق عبد العزيز وفتح الجنود باب الباص من الجانب، وشاهدوا ما بالباص من خضار وفواكه. الجندي الذي فتح الباب من جهتي دخل حيث أجلس ودفعني بقوة وأخذ يطلب مني أن أبتعد وطلبتُ منه إعطائي وقت حتى أفك حزام الأمان إلا أنه دفعني بقوة ولم أتمكن من فك الحزام وأصبح جسده فوق جسدي تقريباً. أمّا من كان على جهة السائق فقد بقي على درجة الباص وأمر السائق أن يتجه نحو شارع فرعي باتجاه اليمن عندما سرنا ما يقارب أقل من 100 متر طلب من السائق أن يتوقف وقد توقف ومن ثم طلب منا الجنود النزول من السيارة وإيقاف المحرك، وعندما نزلتُ أخذ جندي بدفعي بعنف وبشكل متكرر وكان يتصرف بعنف وعصبية وكان يشهر سلاحه ويصرخ ويكرر كلمات (أصصصصص...). كانت هناك ساحة لمنزل تحت الإنشاء والإعمار وطلب الجنود مني ومن صديقي الجلوس على الأرض وهي أرض مبلطة ورفضوا السماح لصديقي الجلوس على حفة حوض زراعي وأمرونا بعصبية أن ننزل إلى البلاط وكانوا بحركاتهم وأوامرهم يبدون خطرين جداً وكنت خائفاً مما سيحدث في أي لحظة لشدة العنف من تعاملهم جلستُ وكذلك صديقي كما طلبوا منا".[7]
كما أضاف:
"وبعد تقريباً ربع ساعة وصل اثنين آخرين في الخمسينيّات من العمر ...كما شاهدت التعامل من الجنود بعنف وقسوة معهم وأجلسوهم إلى الجهة الغربية مني وعلى بعد أمتار حيث كان الأقرب لي صديقي وهو على بعد مترين مني وهم بالقرب مني بحوالي أربعة أمتار تقريباً... ثم سمعت اثنين يتشاهدون أي يكررون الشهادة وهو ما يفعله بالعادة من يشعرون بالموت. بقينا جالسين تقريباً أكثر من نصف ساعة في نفس المكان وجندي أو أحياناً اثنين أمامنا يصوبون أسلحتهم باتجاهنا".[8]
كما أفاد السيّد عبد الرحمن أنّ جنود الاحتلال كانوا على وعي تامّ بأنّ السيد أسعد كان قد أغمي عليه على الأرض وبحاجة لتدخل طبي عاجل، إذ قال:
"أثناء جلوسنا هذه المدة تمكنت من مشاهدة شخص حيث كان بجانبي على يميني على بعد متر ونص إلى مترين ولم يكن يجلس جلوساً إنما كان على وجهه على جهة الجانب الأيمن، أي خده الأيمن على البلاط. لم أتمكن من المناداة عليه خوفاً من الجنود ولكن لم أسمع منه أيّ نفس ولم أشعر بأيّ حركة. ومن ثم اقترب جندي منه وشاهدته يجلس ركبة ونصف عند رأسه، وقد شاهدت الجندي بعد أن لمس رأس ذلك الشخص وقف وفكّ وثاقه حيث كانت يداه مقيدتين للخلف بقيد بلاستيكي، شاهدت الجندي يقصه وبعد ثوانٍ شاهدتُ الجنود يبتعدون قليلاً وقد سمعتهم يهمسون بين بعضهم ومن ثم صوب جندي سلاحه نحونا، وابتعد الجنود إلى جهة الشمال أي نحو الشارع الرئيسي الذي كنا نسلكه. عندما شاهدت الجنود يبتعدون وقد ابتعد أيضاً الجندي الذي كان يصوب سلاحه نحونا؛ قلتُ للآخرين وهم كانوا يشاهدون تقريباً مثلي أن الجنود ذهبوا، فنهضت واقتربت من الشخص الذي وصفته ورفعت رأسه عن الأرض وهنا عرفت أنه أبو هاني واسمه عمر محمد أسعد وأنا أعرفه مسبقاً وهو يعاني من عدة أمراض، وفوراً تحسست نبضه ولم أشعر به، وبسرعة طلبت ممن هم بقربي الذهاب للمستوصف واستمررت في محاولة تحريكه وأنا أنادي على اسمه إلّا أن عينيه ظلتا مغلقتين ولم يحرّك ساكناً. بعد دقائق وصل الطبيب من العيادة الواقعة على بعد 150 متر تقريباً وبدأ يسعف به".[9]
كان طبيب القرية إسلام أبو زاهر، 30 عاماً، الذي يعمل في مركز صحي في قرية جلجليا يدعى "المركز الطبي العربي"، قد حاول إنعاش السيد أسعد إلا أنه نبضه كان متوقفاً، وقال في هذا الصدد:
"كنت مناوباً ليلاً في العيادة في حوالي الساعة الرابعة وتسع دقائق فجراً عندما سمعت طرق على باب العيادة فقمت من النوم على صوت الطرق واقتربت من الباب لأجد مواطناً في الخمسينيات من العمر وتحدثت معه وقال ( البس عليك ملابس هناك ختيار كانوا ماسكينه الجيش وشكله ميت). فوراً لبست الملابس بسرعة وحملت حقيبة الإسعاف وتبعته مشياً، وعندما وصلت إلى المكان الذي أشار إليه وهناك وجدت شخصاً كبيراً بالسن وكان ملقى على وجهه وفي إحدى يديه رباط بلاستيكي، وعندما قلبته على ظهره عرفت الشخص وهو أبو هاني وسبق أن زارني بالعيادة بهدف العلاج أكثر من مرة واسمه عمر أسعد وعمره يصل الى 80 عاماً ومن المشاكل الصحية لديه أمراض القلب الإفقارية وخضع لعملية قلب مفتوح، كما يعاني من السكري والضغط ونوع من السمنة المفرطة".[10]
أما فيما يتعلق بملاحظاته الطبية الأولية، فقد قال الطبيب أبو زاهر:
"لاحظتُ أن هناك عصبة على عينيه ما زالت ثابتة وعندما أنزلت العصبة لاحظتُ أن يده اليسرى ما زال بها قيد بلاستيكي ولا يوجد أي آثار لأي علاج طبي بالمكان، كان في وجهه ازرقاق كبير دلالة على نقص حاد بالأكسجين، حاولتُ إسعافه وتقديم حالة إنعاش قلبي لمدة عشر دقائق... وأقدّر أنه كان متوفياً قبل حضوري لمكان الواقعة بحوالي 15-20 دقيقة".[11]
تحليل قانوني
إن اعتقال المواطن عمر أسعد البالغ من العمر ثمانين عاماً، إلى جانب المواطنين عبد الرحمن وحمودة، دون وجود أمر اعتقال وبدون أي سبب واضح، يرقى لجريمة حرمان تعسفي من الحرية، كما وجاءت وفاة المواطن أسعد نتيجة لسوء ووحشية المعاملة التي تعرض لها من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي، والتي قد ترقى إلى جريمة التعذيب. علماً أن السيد أسعد هو شخص مسنّ ويعاني من مرض القلب الإفقاري وكان قد أجرى عملية قلب مفتوح سابقاً، كما أنه لم يكن يشكّل أي خطر لجنود الاحتلال. إلا أنهم تعاملوا معه بعنف ووحشية وتركوه مقيد اليدين ومعصوب العينين في مبنى قيد الإنشاء وفي جو شديد البرودة لأكثر من ساعة. تشّكل هذه المعاملة لا سيما في ظل غياب حالة الضرورة والتناسبية انتهاكاً صارخاً للقانون الإنساني الدولي، ففي حالة المواطن أسعد، لم يكن هناك أية أعمال عسكرية أو عدائية فعلية واضحة في المكان، وعليه فإن هذه الحادثة تندرج في إطار نموذج إنفاذ القانون حيث ينطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان.
تلتزم إسرائيل، باعتبارها السلطة القائمة بالاحتلال باحترام وحماية وتطبيق القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة، وذلك وفقاً لالتزاماتها بموجب كل من اتفاقية جنيف الرابعة[12] والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[13] والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية[14] واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة[15] والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري[16] وغيرها من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها، أو تلك التي تشكل قانوناً دولياً عرفياً يمكن تطبيقه في الأرض الفلسطينية المحتلة.
حق الفرد في الأمان على شخصه والحرية من الاعتقال التعسفي
إن اعتقال المواطن عمر أسعد البالغ من العمر ثمانين عاماً والمواطنين عبد الرحمن وحمودة، في منتصف الليل وبطريقة عنيفة دون وجود أي سبب واضح لذلك، يشكّل انتهاكاً لحق الفرد في الأمان على شخصه والحرية من الاعتقال التعسفي، الذي نصّت عليه المادة (9) العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. كما ويُحظر الحرمان التعسفي من الحرية كقاعدة من قواعد القانون الدولي الإنساني العرفي الذي ينطبق على الأراضي الفلسطينية المحتلة.[17]، إذ إنه في حالات الاحتلال العسكري؛ يجوز للسلطة القائمة بالاحتلال أن تعتقل المدنيين/ات "لأسباب أمنية قاهرة" فقط[18]. كما تنصّ المادة (5) من مدونة الأمم المتحدة لقواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون على أنه يتعيّن على الموظفين المكلّفين بإنفاذ القانون وفي الحالات التي لا مناص فيها من الاستخدام المشروع للقوة أو الأسلحة النّارية "ممارسة ضبط النفس في استخدام القوة والتصرف بطريقة تتناسب مع خطورة الجرم والهدف المشروع المراد تحقيقه[19]، وتقليل الضرر والإصابة، واحترام وصون حياة الإنسان".[20]
حق الفرد في المعاملة الإنسانية
تنصّ المادة (10) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على وجوب معاملة "جميع المحرومين من حريتهم معاملة إنسانية، تحترم الكرامة الأصيلة في الشخص الإنساني". إنّ معاملة السيد عمر أسعد بطريقة وحشية ولاإنسانية ومهينة وتركه مغمى عليه ومقيّد اليدين ومعصوب العينين في مبنى قيد الإنشاء وفي جوّ شديد البرودة لأكثر من ساعة، تشكّل انتهاكاً لحقّه في هذه المعاملة الإنسانية وقد ترقى أيضاً لأفعال تعذيب تجرّمها اتفاقية مناهضة التعذيب. وفي هذا الصدد، تنصّ المادة (7) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على وجه الخصوص أنّه "لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطّة بالكرامة"، كما يعتبر إعلان حماية جميع الأشخاص من التعرض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة هذه الأفعال بمثابة "امتهان للكرامة الإنسانية، وتُدان بوصفها إنكار لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة وانتهاك لحقوق الإنسان والحريات الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان".[21]
حق الفرد في الحياة
انتهكت قوات الاحتلال الإسرائيلي حق المواطن عمر أسعد في الحياة، وفقاً لما تنصّ عليه المادة (6/1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يؤكّد على أنّ الحقّ في الحياة هو الحق الأسمى "وهو حق ملازم لكل إنسان، وعلى القانون أن يحمي هذا الحق. ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفاً حتى في حالات النزاع المسلّح وغيرها من حالات الطوارئ العامّة"،[22] كما ينبغي "ألّا يفسّر هذا الحق تفسيراً ضيقاً".[23] وعليه فإنّ أي حرمان للفرد من حياته يعتبر فعلاً تعسفياً لا سيما في حال غياب أي تهديد على الحياة أو التسبب في إصابة بالغة.[24] وفي هذا السياق، تنصّ المادة (3) من مدونة الأمم المتحدة لقواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون على أنه "لا يجوز للموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين استعمال القوة إلا في حالة الضرورة القصوى وفـى الحدود اللازمة لأداء واجبهم".[25] كما يتعين على إسرائيل، باعتبارها السلطة القائمة بالاحتلال، الالتزام باحترام القانون الدولي الإنساني في الأرض الفلسطينية المحتلة، باعتباره مكمّلاً للقانون الدولي لحقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بحماية الحق في الحياة.[26] إضافة إلى ذلك، فإن المادة (4) من اتفاقية جنيف الرابعة تحمي المدنيين/ات الفلسطينيين/ات باعتبارهم تحت سلطة دولة الاحتلال، وعليه فإن المواطن عمر أسعد كان يتمتع بحماية خاصة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.
حق الفرد في الصحة
بموجب القانون الدولي الإنساني، فإن الحصول على الرعاية الصحية وغيرها من الخدمات الأساسية دون تأخير يعدّ أساساً لحماية حق الفرد في الحياة.[27] إذ تنصّ المادة (5/ج) على أنه يتوجب على الموظفين المكلّفين بإنفاذ القوانين "التكفل بتقديم المساعدة والإسعافات الطبية في أقرب وقت ممكن إلى الشخص المصاب أو المتضرر".[28] كما تنصّ المادة (6) من مدونة الأمم المتحدة لقواعد سلوك الموظفين المكلّفين بإنفاذ القوانين على أنه يتعيّن على الموظفين المكلّفين بإنفاذ القوانين توفير "الحماية التامة لصحة الأشخاص المحتجزين فـي عهدتهم، وعليهم، بوجه خاص، اتخاذ التدابير الفورية لتوفير العناية الطبية لهم كلما لزم ذلك".[29] إلّا أنه وبحسب توثيقات مؤسسة الحق؛ فإن جنود الاحتلال، على الرغم من معرفتهم التامة بغياب السيد عمر أسعد عن الوعي، فإنهم لم يوفّروا له أي مساعدة طبية بل وغادروا المكان دون فعل أي شيء.[30]
على الرغم من الالتزامات الدولية القانونية بوجوب تقديم المساعدة الطبية للمصابين من قبل الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين، فإن امتناع قوات الاحتلال الإسرائيلي عن تقديم المساعدة الطبية العاجلة للسيد عمر أسعد يمكن أن يرقى لجريمة الحرمان التعسفي من الحياة، مما يشكّل انتهاكاً واضحاً للمادة (6/1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، بالإضافة إلى انتهاك حق السيد أسعد في الصحة الذي تكفله المادة (12/1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
التمييز والفصل العنصريان
إنّ الاقتحامات الإسرائيلية الليلية المنظمة وحرمان الفلسطينيين التعسفي من حريتهم واستخدام القوة المفرطة بحقهم يجب النظر إليها جميعها في السياق الأوسع لنظام القمع والسيطرة العنصري المنظم والممنهج الذي تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني ككل، وهو ما يعتبره نظام روما الأساسي جريمة فصل عنصري.[31] كما تعتبر الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها لعام 1973 أنّ "حرمان عضو أو أعضاء في فئة أو فئات عنصرية من الحق في الحياة والحرية الشخصية" فعل فصل عنصري.[32] كما تنص المادة (3) من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري أنه يتوجب على الدول الأطراف أن "تشجب بصفة خاصة العزل العنصري والفصل العنصري، وتتعهد بمنع وحظر واستئصال كل الممارسات المماثلة في الأقاليم الخاضعة لولايتها"، وعليه فإن لجوء سلطات الاحتلال الإسرائيلية إلى استخدام القوة المفرطة بحق الفلسطينيين "يشكّل ركيزة إسرائيلية أخرى لخلق نظام الفصل العنصري والمحافظة عليه بحق الشعب الفلسطيني، وذلك من خلال خلق بيئات قسرية تهدد حياتهم وتغذّي مناخاً من القمع يهدف إلى تقويض ممارستهم لحقوقهم غير القابلة للتصرف".[33]
يعتبر التمييز العنصري فعلاً محظوراً حظراً مطلقاً، لا سيما عند تأثيره على تمتع الفرد بحقوقه في الحياة والصحة، إذ إنه وبموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان "يشكّل أي حرمان من الحياة بسبب التمييز في القانون أو الواقع إجراء تعسفياً في طابعه بحكم الأمر الواقع".[34] كما تنص المادة (5/ب) على التزام الدول الأطراف "بحظر التمييز العنصري والقضاء عليه بكافة أشكاله، وبضمان حق كل إنسان، دون تمييز بسبب العرق أو اللون أو الأصل القومي أو الاثني، في المساواة أمام القانون، لا سيما بصدد التمتع في [..] الحق في الأمن على شخصه وفي حماية الدولة له من أي عنف أو أذى بدني، يصدر سواء عن موظفين رسميين أو عن أية جماعة أو مؤسسة". إن سياسة قوة الاحتلال الإسرائيلية الممنهجة فيما يتعلق بحرمان وصول المصابين للرعاية الصحية اللازمة ترقى لجريمة تمييز عنصري محظورة تحول دون تمتع الفلسطينيين/ات بحقهم/ن في الحياة والصحة.
المساءلة
نشر جيش الاحتلال الإسرائيلي في أعقاب هذه الحادثة بياناً رسمياً قال فيه إنّ "التحقيقات الأولية مع الجنود الذين كانوا في مكان الحادثة تشير إلى أنه خلال عملية تفتيش للقرية تم القبض على رجل فلسطيني بعد أن رفض أن يتم تفتيشه ثم أطلق سراحه في الليلة نفسها".[35] بيد أن توثيقات "الحق" تشير إلى أنه لم يتم إطلاق سراح السيد عمر أسعد، بل قام الجنود بتفتيشه بينما كان ملقى على الأرض، ثم فكّوا الرباط البلاستكي حول يديه وغادروا المكان دون أن يقدّموا له أي مساعدة طبية رغم أنه كان بأمسّ الحاجة لها.
إنّ سلوك جنود الاحتلال الإسرائيلي في هذه الحادثة يشكّل انتهاكاً جسيماً لاتفاقية جنيف الرابعة ويمكن أن يرقى لحد ارتكاب جرائم حرب ضمن إطار الاختصاص الموضوعي لمحكمة الجنايات الدولي، إذ تشمل جرائم الحرب هذه جريمة التعذيب والمعاملة اللاإنسانية وجريمة تعمّد إحداث معاناة كبيرة أو إلحاق أذى خطير بالجسم أو الصحة، وذلك بموجب المادتين (8/2/أ/2) و (8/2/أ/3) من نظام روما الأساسي على التوالي. كما أنه وبالنظر إلى طبيعة ممارسات الاحتلال الإسرائيلي الواسعة والمنظمة والممنهجة باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من النظام العنصري الذي تمارسه؛ فإن هذه الأفعال يمكن أن ترقى لارتكاب جرائم ضد الإنسانية كجريمة السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي وذلك بموجب المادة (7/1/ه).
يقع على عاتق إسرائيل، باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال، أن تلتزم بالتحقيق في هذه الحادثة على وجه السرعة وبشفافية. إذ توفّر المادة (17/2) من نظام روما الأساسي معياراً لقياس رغبة الدولة في الاضطلاع بهذه التحقيقات، آخذة بعين الاعتبار عدم اضطلاع الدولة في مثل هذه التحقيقات بغرض حماية الشخص المعني من المسئولية الجنائية عن جرائم داخلة في اختصاص المحكمة[36] وألّا تحدث أي تأخير لا مبرر له في الإجراءات[37] أو أن تباشر في تحقيقاتها دون استقلالية ونزاهة.[38] كما ويجب على الاحتلال الاسرائيلي أن ينشر نتيجة التحقيق متاحة للجمهور، وأن يحاكم المسؤولين عن هذه الجريمة على وجه السرعة. علاوة على ذلك، يجب على الاحتلال الاسرائيلي تقديم تعويضات للضحايا وعائلاتهم.
الخاتمة
تشير تقارير "الحق" الميدانية الأولية في هذه الحادثة إلى أنه لم يكن هناك أية أعمال عسكرية أو عدائية فعلية واضحة في المكان، كما تشير إلى أنّ جنود الاحتلال، على الرغم من معرفتهم التامة بغياب السيد عمر أسعد عن الوعي، فإنهم لم يوفّروا له أي مساعدة طبية بل وغادروا المكان. وعليه فإنّ اعتقال السيد أسعد ومعاملته بهذه الطريقة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي التي يمكن أن تكون قد تسببت في وفاته، ترقى لجريمة الحرمان التعسفي من الحرية والمعاملة الإنسانية وتنتهك حقّ السيد أسعد في الصحة والحياة، كما تعتبر جريمة معاملة لاإنسانية تخالف مبادئ اتفاقية جنيف الرابعة؛ مخالفةً جسيمة.
من جانب آخر، إنّ سلوك قوات الاحتلال الإسرائيلي في هذه الحادثة يشكّل جريمة ضدّ الإنسانية تستهدف بها الشعب الفلسطيني ككل، بما فيها جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد. وعليه، وبناء على ما تقدّم، تطالب "الحق" بالعدالة الدولية والمساءلة بحق مرتكبي هذه الجريمة، ووضع حد لإفلات إسرائيل المستشري من العقاب على انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني برمته، كما تدعو محكمة الجنايات الدولية إلى التعجيل في تحقيقها بخصوص الوضع في فلسطين.
[1] إفادة لمؤسسة الحق بخصوص حادثة السيد عمر أسعد/ قرية جلجليا: 12 يناير/ كانون الثاني 2022
[2] إفادة لمؤسسة الحق بخصوص حادثة السيد عمر أسعد/ قرية جلجليا: 12 يناير/ كانون الثاني 2022
[3] تايمز أوف إسرائيل: "الولايات المتحدة تطالب بتوضيحات بعد وفاة فلسطيني-أمريكي، 80 عاماً، في أعقاب اعتقاله من قبل قوات الدفاع الإسرائيلي": 12 يناير/ كانون الثاني 2022: https://www.timesofisrael.com/us-seeks-clarification-after-palestinian-american-80-dies-following-idf-arrest/
[4] إفادة لمؤسسة الحق بخصوص حادثة السيد عمر أسعد/ قرية جلجليا: 12 يناير/ كانون الثاني 2022
[5] إفادة لمؤسسة الحق بخصوص حادثة السيد عمر أسعد/ قرية جلجليا: 12 يناير/ كانون الثاني 2022
[6] إفادة لمؤسسة الحق رقم (1)
[7] إفادة لمؤسسة الحق رقم (5)
[8] إفادة لمؤسسة الحق رقم (5)
[9] إفادة لمؤسسة الحق رقم (5)
[10] إفادة لمؤسسة الحق بخصوص حادثة السيد عمر أسعد/ قرية جلجليا: 12 يناير/ كانون الثاني 2022: إفادة الدكتور إسلام أبو زاهر
[11] إفادة لمؤسسة الحق بخصوص حادثة السيد عمر أسعد/ قرية جلجليا: 12 يناير/ كانون الثاني 2022: إفادة الدكتور إسلام أبو زاهر
[12] اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب: 12 أغسطس/ آب 1949
[13] العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: 16 ديسمبر/ كانون الأول 1966
[14] العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية: 16 ديسمبر/ كانون الأول 1966
[15] اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة: 10 ديسمبر/ كانون الأول 1984
[16] الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري: 7 مارس/ آذار 1966
[17] قاعدة بيانات القانون الدولي الإنساني العرفي، القاعدة رقم (99)
[18] اتفاقية جنيف الرابعة: المادة (78)
[19] مدونة الأمم المتحدة لقواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين: المادة (5/أ)
[20] مدونة الأمم المتحدة لقواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين: المادة (5/ب)
[21] إعلان حماية جميع الأشخاص من التعرض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (3452): 9 ديسمبر/ كانون الأول 1975
[22] لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، التعليق العام رقم (36) حول المادة (6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية "الحق في الحياة"، الفقرة (2): 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2018
[23] لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، التعليق العام رقم (36) حول المادة (6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية "الحق في الحياة"، الفقرة (3): 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2018
[24] لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، التعليق العام رقم (36) حول المادة (6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية "الحق في الحياة"، الفقرة (3): 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2018
[25] مدونة الأمم المتحدة لقواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين
[26] لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، التعليق العام رقم (36) حول المادة (6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية "الحق في الحياة"، الفقرة (64): 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2018
[27] لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، التعليق العام رقم (36) حول المادة (6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية "الحق في الحياة"، الفقرة (26): 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2018
[28] مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استخدام القوة والأسلحة النارية من جانب الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين
[29] مدونة الأمم المتحدة لقواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين
[30] إفادة لمؤسسة الحق رقم (5)
[31] نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، المادة (7/2/ح)
[32] الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها: المادة (2/أ)
[33] انظر/ي "مؤسسات فلسطينية وعربية ودولية ترسل تقريراً للجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري بخصوص الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل": 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019: https://www.alhaq.org/advocacy/16183.html
[34] لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، التعليق العام رقم (36) حول المادة (6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية "الحق في الحياة"، الفقرة (61): 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2018
[35] بي بي سي: "العثور على جثة رجل فلسطيني- أمريكي يبلغ من العمر 80 عاماً في أعقاب مداهمة إسرائيلية في الضفة الغربية": 12 يناير/ كانون الثاني 2022: https://www.bbc.com/news/world-middle-east-59971232
[36] نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية، المادة (17/2/أ)
[37] نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية، المادة (17/2/ب)
[38] نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية، المادة (17/2/ج)